من سربرنيتسا إلى غزة.. في سراييفو ما زلنا لم نعتد المشهد

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/21 الساعة 11:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/21 الساعة 11:10 بتوقيت غرينتش
أمهات غزة - shutterstock

منذ لحظات الفجر الأولى للحرب في غزة، وأنا، صحفية من قلب البوسنة، أتابع بعين يملؤها الثقل، كل حركة وكل صدى ينبثق من تلك الأرض. بكل صورة تخترق الأثير، بكل خبر يجتاح عيني ووعيي، أجد قلبي يضيق، يعتصر بألم ممزوج بذكرى جراح لم تبرأ بعد؛ جراح سربرنيتسا، تلك المأساة التي خلفت بصماتها العميقة على قلب شعبي.

هذا الألم المتشابك، الذي يمتد عبر الزمان والمكان، يخلق رابطاً عميقاً يجمع بين روحي وروح الشعب الفلسطيني في غزة. كل مشهد يمر أمامي ليس إلا دليلاً آخر على أن الألم ما زال قابعاً في قلبي بنفس الوطأة والتأثير.

ورغم مرور نصف عام لم تتوقف فيها الحرب، لم تتمكن نفسي من التأقلم أو أن تعتاد مشهد الدمار في غزة، مشهد يغمره الحزن الذي يطبع وجوه الأطفال والعائلات في غزة. مشاهد الألم في غزة تعيدني إلى الأيام المظلمة التي عاشتها البوسنة، إلى صرخات الأمهات الباحثات عن أبنائهن المفقودين، وإلى الأسى العظيم الذي لم يغادر ذاكرة من نجوا. الشعور باليأس وخذلان العالم الذي يشعر به الفلسطينيون في غزة اليوم، هو نفسه الشعور الذي غمر البوسنيين خلال مذبحة سربرنيتسا.

في عام 1995 داخل مدينة صغيرة تدعى سربرنيتسا في بلدي، البوسنة والهرسك قتل 8372 إنساناً، 8372 حلماً تم إطفاؤه في غضون بضعة أيام فقط. وقد بدأ كل شيء عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم "الجزار الصربي"، إلى مدينة سربرنيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: "لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة".

ومن ثم بدأت الكوابيس في ذلك اليوم، فُصلت النساء عن الرجال، ووضع جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و77 عاماً في حافلات، ولم يعودوا أبداً إلى اليوم.

تعرضت آلاف النساء للاغتصاب، وفُصل الأطفال عن أمهاتهم، بينما نفذوا أعمالاً مهينة للشرف لجميع الرجال الذين أخذوا. وأجبروهم على غناء الأغاني الصربية القومية، وأجبروهم على ارتكاب فظائع مثل التشويه والعنف الجسدي والجنسي وقتل بعضهم البعض، لدرجة كان عليهم حفر مقابر جماعية ودفن أحبائهم في تلك القبور.

من سربرنيتسا إلى غزة

يقول علي عزت بيجوفيتش : "لا تنسوا الإبادات الجماعية، فإنها تتكرر عند نسيانها"، ويبدو أن للعالم ذاكرة ضعيفة، فاليوم وفي مدينة أصغر من سربنيتسا، يرتكب الاحتلال الإسرائيلي بمساعدة أغلب الدول الغربية مجزرة جديدة، وهذه المره وكأن الاحتلال الإسرائيلي يصر على أن تصبح أبشع وأكثر إيلاماً، لكي يقتلع الفلسطينيين من أرضهم للأبد.

فحتى لحظات كتابة هذا المقال، ومنذ أكثر من 166 يوماً وصل ضحايا الاحتلال الإسرائيلي إلى 31 ألفاً و923 قتيلاً، و74 ألفاً و96 مصاباً، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال. دائماً لا يكتفي القاتل بالقتل، فكما حوصرت سربرنيتسا، تحاصر غزة اليوم، ويمنع عنها حتى شربة الماء النظيف حقيقة لا مجازاً، فبالتوازي مع شن الطائرات قصفها اليومي على غزة، يصر الاحتلال على منع دخول أي مساعدات للمدنيين بهدف إفنائهم، أمام مرأى ومسمع العالم الذي يبدو أنه لا مكان أفضل للأبرياء وأكثر عدالة، فلم يخجل عندما صمت في سربرنيتسا ولا يخجل اليوم في غزة. 

أشاهد غزة تحت الحصار والقصف كل يوم، وفي بالي، كم من بيت ذهب بلا عودة، كم مُسحت عائلات بأكملها، كم أم فقدت ابنها، وكم طفل فقد أمه وربما عائلته بأكملها، أفكر في النساء هناك كيف يداعبن أطفالهن وسط الحرب، ماذا يقلن لهم، كيف يبكين في ساعة وفي ساعة أخرى يراعين أبناءهن وكأنهم سيعيشون للأبد، أرى صمود الشعب الفلسطيني وأرى حزنه ومأساته، وتجتاحني مشاعر مختلطة لعلها أكبر من طاقة قلبى على استيعابها وفهمها.

ما زالت تتألم سربرنيتسا إلى اليوم، وتتألم وتتمزق غزة اليوم أيضاً، وسنغرق في دموعنا كما اعتدنا، وسنصلي لأجل شهدائنا حتى وإن لم نجد بعض قبورهم، لكن ما أود قوله هو شيء آخر فأنا أشعر أيضاً بروح الشعب الفلسطيني الذي يرفض الانكسار، فمثلما في سربرنيتسا، حيث تشبثنا بالأمل في أحلك اللحظات، أرى في غزة اليوم ذات الإرادة للحياة والصمود في وجه الألم.

مقتل جندي من لواء جفعاتي غزة الاحتلال مجازر - من سربرنيتسا إلى غزة
جثامين شهداء في مدينة رفح جنوب غزة/الأناضول

أؤمن بأن القصص التي نرويها، والأصوات التي نرفعها، هي ما تحمينا وتحمي مستقبلنا وذاكرتنا أمام عالم لا يأبه، لذلك يجب علينا جميعاً نحن الشعوب المقهورة، ألا نعتاد المشهد وأن نفكر كل يوم في الآلاف من الآباء والأزواج والأطفال بينما نحن نيام، يسيرون إلى مكان ما في غزة ويعرفون أن نهاية هذا الطريق هي الموت، لنفكر كيف نظروا للحياة؟ كيف نظروا لألوان الأنقاض حولهم أو للون السماء فوقهم؟

فكروا في آلاف الأمهات والزوجات والبنات اللاتي ما زلن ينتظرن بيأس ربما عودة الغائبين، حتى ولو كانوا جثثاً لا تشعر بالعالم حولها، فقط ليصلين عليها ويضعن الورد. تخيل أن تلك الأمهات ربما يغادرن الحياة دون رؤية قبر أولادهن وغسله بدموعهن.

ضعوا أنفسكم اليوم في مكانهن لدقائق فقط أو لثوانٍ، ولا تعتادوا المشهد فأنا لم أعتده!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عذرا عمربزيتش
كاتبة وصحفية بوسنية
كاتبة صحفية بوسنية
تحميل المزيد