بُني في المكان الذي انطلق منه التبشير بالجزائر.. جامع الجزائر الأعظم وصراع الثقافة والهوية

تم النشر: 2024/03/21 الساعة 14:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/22 الساعة 10:08 بتوقيت غرينتش
جامع الجزائر الأعظم/ shutterstock

الهندسة قيمة عابرة للزمن

هناك أحداث كبيرة تُغير مَجْرى التاريخ، ومسار الشعوب، مثل الدين والأفكار، وتقوم حروب كبيرة تختصر الزمن. وتؤلَّف كتب وقصائد خالدة ترددها الأجيال، وما أكثر الأشياء التي تطويها الأحداث وينساها الزمن. 

لكن العمارة والهندسة وحدها بقيت صامدة، كمعلم عابر للزمن، شاهد على تاريخ الأمم.

فالتاريخ مهما طال، والذاكرة مهما نسيت، بقيت عاجزة أمام الحجارة الصامدة، التي تتكسر عليها الأساطير والخرافات، وهندسة صامتة، لكنها ناطقة وشهادتها صادقة، والعمران يظل شامخاً كالهمام لا تصله الأقزام. 

كنت أتابع صفحة أخي "سعد شويه"، وهو يقدم رسالة قيمة، ويأتي لنا كل يوم بمسجد جديد في بقعة من الأرض، بهندسة جميلة ومختلفة، تناسب ثقافة تلك الأمة أو القبيلة أو المدينة،  فامتزج الإسلام مع تلك الثقافة وتعايش مع أهلها. 

ولقد شهد العمران، لمدينة القدس متمثلاً في "كنيسة القيامة"  و"المسجد الأقصى"، رمزاً للحرية والتسامح الديني، تربطهما "العهدة العمرية". في حين بقي اليهود يبحثون عن الهيكل المزعوم.

ومهما فعل الإسبان في الأندلس، من محاولات طمس الوجود الإسلامي، فلقد مُزِّقت الكتب، ونُسِيت الخطب، وضاع الفن والأدب، لكن بقي مسجد "قرطبة" و"قصر الحمراء" شاهدين على حضارة الأندلس.

"مقام الشهيد" الصرح التليد

أذكر عندما أخذني الفضول لزيارة "مقام الشهيد"، في بداية الثمانينات، وعندما أوقفت صاحب التاكسي وذكرت له الوِجهة، قال لي: آه.. تقصد "هُبل" -فقد كان بعض شباب الدعوة يشبهونه بالصنم- وجعل منه المنحرفون شبهة للفساد، ورأى فيه البعض فساد وتبذير. 

لكني عندما تجولت في أرجاء متحفه الكبير، أدركت أنه مَعلماً سيبقى شاهداً على عظمة الثورة، صامداً أمام لغط كبير، وتشويه متعمد، لأهم عناوينها: "الشهيد" و"المجاهد". وبقي مقام الشهيد، في صراع، بين ثقافة أتباع الكاردينال "لافيجري" الفرنسية وأبناء "المحمدية"، حتى جاء "جامع الجزائر الأعظم، كالهدية، ليحسم جدل الثقافة ويفصل في الهوية. 

ووجد فيه الأنس، بعد شعور طويل بالوحدة وهو يرابط على ثغر الهوية، وحديث لا يفهمه إلا الكبار، لقد ماتت ثقافة "لا فيجري" في فرنسا قبل أن يقرأ عليها الجزائريون الفاتحة في المحمدية. 

لقد بنت فرنسا "برج إيفل"، وسَخِر منه الباريسيون ووصفوه بـ"الهيكل العظمي العملاق"، وبنوا برج "مونبارناس" (Tour Montparnasse) أكبر ناطحة السحاب، وكَرِهَها الفرنسيون، وقالوا عنها بأنها: القمة التي تقدم أجمل مشهد لباريس، ليس بسبب إطلالها على "برج إيفل" و"كنيسة القلب المقدس"، بل لأنها المكان الوحيد الذي لا تضطر فيه لمشاهدة ناطحة السحاب نفسها، فترى مدينة باريس بدون برج "مونبارناس".

تهويد الثقافة الفرنسية

فـ"برج إيفل" (Tour Eiffel) رمز للتقدم الصناعي فعلاً، وكنيسة "القلب المقدس" كانت رمزاً للتسامح الديني، لكن الثقافة الفرنسية التي جاءت مع الإضافات الهندسية الجديدة مثل "مونبارناس" و"لا ديفونس" مركز المال والتجارة، شوهت الطابع العمراني للمدينة وضاعت معها الثقافة الفرنسية. ويرى الفرنسيون أنهم قد بدأوا في استقبال اليهود التائهين من الشتات، وما لبثوا أن انتقلوا من "الكيتونات" إلى قلب الحياة الفرنسية، "من اليهودي التائه إلى رب العمل"، وصارت فرنسا تسير بـ"عقل يهودي وعمالة فرنسية" كما عبَّر عنها "مالك بن نبي". 

ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه الثقافة الفرنسية للسيطرة على ثقافات مستعمراتها القديمة، ضاعت ثقافتها وغابت هويتها، وفقدت قيمها وعنصرها الإنساني والروحي وأصبحت استغلالية وعنصرية واستعمارية. وأصبحوا يقولون إن الثقافة الفرنسية قد تَهَوَّدت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]



مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالحميد بن سالم
عضو سابق في البرلمان الجزائري
تحميل المزيد