أمهات غزة.. هل تزهر الورود وسط الحروب؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/21 الساعة 13:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/21 الساعة 13:44 بتوقيت غرينتش
نساء غزة يعانون من حرب الاحتلال ضد القطاع/رويترز

أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة، يوماً على صدر يوم، وأعشق عمري، لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي

الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش

تستيقظ أغلب البيوت في مختلف البلاد، بعد استيقاظ الأم، حيث تنبعث من الأسرة حرارة تغمر أرجاء المنزل بالدفء والسكينة. لكن اليوم في غزة وفي خضم الحرب، حيث الركام والخيام، مكان البيوت، تجد الأم في غزة صباحها بين الدمار، ومفروض عليها أن خططاً لحياة ربما لن تستمر غداً.

في صباحات عادية خارج غزة، ربما تعج البيوت بنغمات الحياة؛ حيث تبدأ ربات تلك البيوت بتجهيز مائدة الفطور، لكن في غزة، تستيقظ الأمهات على وقع نداءات الحياة التي لا تعرف الهدوء حتى في خضم الحرب. 

فبين الركام و ذكريات الأمس وربما آمال الغد، تبدأ رحلة بحث مضنية عن لقمة تسد رمق الجائعين، عن قطرة حليب تهدئ بكاء الرضيع. في هذه الأرض المحاصرة، حيث أصبح الطحين ليس إلا حلماً يراود النائمين، تواجه الأم صراعاً يومياً لتوفير الأساسيات.

مع انبلاج كل فجر، تبدأ معركة جديدة، لا بسواعد مسلحة، بل بقلوب تحمل حباً جارفاً وإرادة لا تلين. فالبحث عن طعام في غزة ليس مجرد تحدٍّ يومي، بل هو رحلة بين أنقاض ما كان يوماً بيتاً، بحثاً عن أمل يزهر في الخراب. الأم هنا، ليست فقط مغذية الأجساد، بل هي ساقية الأرواح، تروي ظمأ الأمل بكل قطرة ماء تجدها، بكل فتات خبز تجمعه.

في صباحات أخرى، حيث يعم الهدوء، تودع الأمهات في أنحاء العالم أبناءهن متوجهين إلى المدرسة بابتسامات تفيض بالفخر، لكن في غزة، تستيقظ الأم على حقيقة أخرى، فربما تجد نفسها تلم أشلاء أبنائها بين جدران متهالكة، مودعة نجلها الذاهب ليس إلى مدرسة، بل ربما إلى مثواه الأخير مصير.

تعكف الأمهات في مشاهد الحياة اليومية على كل تفاصيل البيت، من تجديد الديكور إلى مهام منزلية تبعث الحياة في زواياه، بينما في غزة، تقف الأمهات أمام أنقاض منازلهن، تلك الأطلال التي كانت يوماً مليئة بالضحكات والذكريات، تنظرن بعيون تملؤها الحيرة والأمل إلى ما تبقى من معالم حياتهن.

وبينما تسعى الأم للعناية بنفسها وخلق مساحتها الخاصة في أماكن أخرى من العالم، تجد الأمهات في غزة أنفسهن في معركة من أجل البقاء، محرومات من أبسط مقومات الحياة، يواجهن العدوان بقلوب تفيض بمشاعر شديدة التناقض، بين مشاعر مليئة باليأس والحزن والألم، ومشاعر مليئة بالحب والشجاعة، لا أعلم أي قلب إنساني يمكن أن يتحمل هذه المشاعر بهذا الزخم كل يوم ولا يسقط.

في غزة اليوم، ربما لن أبالغ إن قلت إن الأمهات هن أكثر الناس تكبّداً للألم، تكتوي قلوبهن بألم فراق الأبناء، والخوف على من تَبقَّى، ويتحملن الشوق والدموع والحسرات، وسط محاولات دائمة لأداء دورهن ولمّ شمل عوائلهن، وتوفير ملاذ آمن تحت سماء ملبدة بالصواريخ وطائرات الاحتلال.

غزة والصمت العربي  - أمهات غزة
أمهات غزة – shutterstock

ويأتي عيد الأم هذا العام، ليمرّ عليهن حزيناً، لا يحمل سوى زيادة في الغصة وحرقة قلب، رغم ذلك أجد أمهات غزة ما زلن قادرات على أن يداعبن أطفالهن، ويحضرن الطعام، ويحتضن أبناءهن وأزواجهن! لا أعلم من أين يأتين بكل هذا الصبر والحب. 

لطالما كان الحب بمثابة اللغز الذي يحير القلوب والعقول، لكن ماذا عن الحب في وقت الحروب، هل من الممكن أن تزهر الورود على أرض محروقة؟ لعل الإجابة تلوح في عيون أمهات غزة، حيث يصبح الحب، بكل تجلياته، الملاذ الأخير والأول للحياة هناك.

كنت أفكر، هل للحب فائدة ونحن محاطون بالدمار؟ ربما يجاوب البعض بنعم، فعلى الأقل هو هروب من قسوة الواقع، أو ربما محاولة يائسة لتشتيت الانتباه عن الصواريخ أو الموت المتربص بالجميع. 

لكني أعتقد أن الإجابة أعمق بكثير من ذلك، فالحب في زمن الحرب كما أراه في أمهات ونساء غزة، يعكس رغبة الإنسان الجوهرية في الحياة والاستمرارية، وكأنه يمنحنا نحن الأبناء القوة لنواجه الموت بوجهه القاسي، لنحاول أن نثبت للموت نفسه أننا لا نخاف منه، وأن الحياة ستستمر، بأطفالها، بأحلامها، وبأملها الذي لا ينضب.

في غزة، الأمهات والنساء يحولن الحب إلى درع يحمي أطفالهن وإخوتهن من قسوة الحرب. كالأبطال هن، يخبئن الخوف في أعماقهن ليزرعن بدلاً منه بسمة أمل على وجوه صغيرة ترقب اللايقين.

لقد أدركت أن أمهاتنا ونساءنا في غزة، تماماً كالأرض التي لا تفتأ تعطي وتزهر حتى في أقسى الظروف، يعلمن أبناءهن الصمود والقوة، يربينهم على الأمل والإيمان بمستقبل أفضل. ترى في عيونهن قصصاً من العزة والشموخ، قصصاً تحكي عن تضحيات جسام وحب لا يعرف الحدود. هن كالنوارس، تحلق فوق الأرض الجريحة، تبشر بالحياة وتعانق السماء.

يا أمهات غزة ويا صبايانا في عيدكم اليوم، دمتن فخراً وعزة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زيد إبراهيم
كاتب وباحث فلسطيني
تحميل المزيد