في قلب الحضارة الإسلامية، وعلى مر العصور، نبتت بذور ممارسة عميقة الجذور تعبر عن أسمى معاني الكرم والتآزر الاجتماعي في المجتمع الإسلامي بشكل عام، هي موائد الرحمن. لم تكن هذه الموائد مجرد وسائل لإطعام الفقراء والمحتاجين فقط، بل تعدت ذلك لتصبح رمزاً للعطاء والتكافل، تشترك فيها مختلف الطبقات الاجتماعية، مانحةً إياها بعداً ثقافياً ودينياً يسهم في توطيد أواصر المجتمع وتعزيز الترابط بين أفراده.
تجتمع في أيام شهر رمضان المبارك البركات، ويسعى فيها المسلمون للتآزر والتكافل، وهذا ليس غريباً في تركيا ومدنها العريقة، حيث آلاف الناس يلتقون يومياً على موائد الرحمن، لتقاسم الزاد والثواب.
واعتادت المدن الكبرى في تركيا كل رمضان، أن توزع طاولاتها وكراسيها في مختلف المناطق والأحياء، لتشكل موائد رحمن كبيرة؛ هذه الموائد ليست مجرد نقاط للتقاء الصائمين في ظلال الروحانيات العميقة، بل هي أيضاً مراسم يتشارك فيها كل الشعب التركي طعم الفرح بالإفطار، وتصبح ملاذاً للعابرين وأبناء السبيل.
حين تنحدر الشمس نحو الغروب، يتدفق الآلاف نحو موائد الرحمن، حيث يشارك البعض في أخذ وجباتهم ويتبادلون أطراف الحديث مع من حولهم، بينما يختار آخرون الجلوس عند الطاولات المنصوبة داخل الخيام المليئة بالناس، في انتظار أذان المغرب بقلوب متحابة.
تتشكل طوابير طويلة تمتد لمسافات، وكلما ازدادت اللحظات قرباً لوقت الإفطار، يغمر الجو شعور بالروحانية. تُتلى آيات القرآن الكريم، وتُختتم اللحظات قبل الأذان بدعوات وابتهالات تملأ الأفق.
وعند حلول وقت الإفطار، يبدأ الجميع بالتمتع بما أعد على موائد الرحمن. هذه اللحظات تخلق جواً فريداً في شهر رمضان بتركيا، إذ تجمع بين طبقات المجتمع المختلفة على مائدة واحدة.
موائد الرحمن في تركيا.. عندما تلتقي القلوب على مائدة واحدة
وتشيد بلدية إسطنبول موائد رحمن في عدة مناطق بإسطنبول كل عام، ومنها مائدة في منطقة السلطان أحمد و أكسراي بقلب المدينة، وأحد أكثر مراكزها حيوية، حيث يتم توزيع آلاف وجبات الإفطار يومياً، فيما نشرت موائد رحمن أخرى بمناطق عدة، تقدم وجبات تصل لعشرات الآلاف كل يوم.
موائد الرحمن في تركيا تتجاوز كونها مجرد تجمعات لإطعام الفقراء؛ إذ تعتبر هذه الموائد طقوساً اجتماعية ودينية عميقة الجذور، يعكف عليها المجتمع والحكومة عبر البلديات، بهدف نسج خيوط التضامن والتآخي بين أفراد الشعب. من هنا، لا يثير الدهشة أن تشهد هذه الموائد تجمعات من مختلف الطبقات الاجتماعية، يجلسون جنباً إلى جنب لتناول وجبة الإفطار.
تعود جذور موائد الرحمن في تركيا إلى العهد العثماني، حيث كان يتم إعدادها بشكل خاص في شهر رمضان، الشهر الذي يعلي من شأن العطاء والتضامن بين الناس، حيث كانت تعرف آنذاك بالموائد السلطانية، لتتحول تسميتها لاحقاً إلى الموائد الملكية. مع مطلع القرن العشرين، شهدت هذه التقاليد غروباً مؤقتاً، لكنها عادت من جديد في سبعينيات القرن ذاته.
وحول أصول موائد رمضان بشكل عام، تتباين آراء المؤرخين: بعضهم يعود بها إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآخرون يرجعونها إلى عهد أحمد بن طولون، حين أصدر توجيهات بدعوة الأثرياء وحكام الأقاليم في اليوم الأول من رمضان، موزعاً إياهم على طاولات الفقراء والمعوزين للإنفاق عليها.
خلال العصر الفاطمي، اشتهرت موائد الرحمن الرمضانية، حيث كان الخليفة ينظم مائدة ضخمة في قاعة الذهب بالقصر، تستمر من الليلة الرابعة حتى السادسة والعشرين من رمضان.
إلى هذه المائدة كان يُدعى كبار رجال الدولة والأمراء والوزير وقاضي القضاة، بالإضافة إلى تنظيم موائد أخرى في مسجد عمرو بن العاص والجامع الأزهر. كما كانت مطابخ القصر توزع آنية مليئة بالطعام على المحتاجين.
الخليفة الفاطمي العزيز بالله كان أول من نظم مائدة رمضانية لأهل جامع عمرو بن العاص، وأقام وجبات في الجامع الأزهر يمكن لأي شخص حضورها خلال شهور رجب وشعبان ورمضان. فيما نسب آخرون بداية موائد الرحمن إلى عصر المعز لدين الله الفاطمي، وهناك روايات تشير إلى بدايتها في عهد هارون الرشيد.
واليوم، تجسد موائد الرحمن جزءاً من الهوية الثقافية الغنية للمجتمعات الإسلامية كافة وخصوصاً المجتمع التركي، حيث أصبحت عادة وتقليداً يسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي ونشر الود بين جميع طبقات المجتمع التركي على مائدة واحدة.
موائد الرحمن في تركيا، بما تحمله من قيم عميقة وتاريخ غني، لا تزال تشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي في تركيا. هي ليست مجرد تقليد ديني، بل صارت طقساً يعبّر عن عمق التعاطف والتضامن في المجتمع، مؤكدةً على قدرة المجتمعات على الحفاظ على قيمها الروحية والأخلاقية عبر الزمان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.