"السلاح يا محمد، السلاح يا محمد!! خياااااااانة"..
من منا لا يتذكر هذا المشهد من فيلم الناصر صلاح الدين، حيث تتكشف خيانة والي عكا، لينهزم الجيش الإسلامي ويدخل تحالف الفرنجة عكا.
ولكن مهلاً، دعني أؤكد لك أن والي عكا في التاريخ لم يكن خائناً من الأساس، بل كان جندياً شريفاً خاض المعركة بشرف، وبعض المصادر رجحت كونه استشهد بها.
ليس هذا فحسب فبالتأكيد سمعت منذ سنوات أن "عيسى العوام" لم يكن مسيحياً كما ظهر في الفيلم، بل قائد مسلم معروف. وهذا يدفعنا دفعاً لسؤال مهم:
لماذا يُحَرَّف التاريخ في الدراما والسينما؟!
مع حلول شهر رمضان المبارك، تهل علينا الدراما التاريخية هذا العام، قد يكون أشهرها وأكثرها متابعة وانتقاداً هو مسلسل الحشاشين الذي انتظره الكثيرون، ولكن هناك أكثر من عمل ذي سمت تاريخي يعرض هذا الموسم، فهناك مسلسلان سعوديان؛ غالية البقمية وخيوط المعازيب، والمسلسل الكويتي الفرج بعد الشدة الذي يتناول حقبة تاريخية معاصرة، والمسلسل السوري تاج، كما يوجد المسلسل التركي صلاح الدين الذي ظهر هذا الموسم بعد الدوبلاج على المنصات لأول مرة بالتزامن مع الموسم الرمضاني.
ومع هذه الأعمال وبدء متابعة الجماهير لها بدأت الأصوات تعلو بالانتقادات، حيث تختلف الدراما والأحداث داخلها عن بعض مرويات التاريخ، وهو ما جعل سؤال لماذا يُحَرِّف صناع الدراما التاريخ؟ يظهر في الأفق بقوة.
الواقع أن هناك حالتين مختلفتين من تناقض الدراما والتاريخ يجب أن نفرق بينهما:
من يكتب التاريخ؟!
هذا السؤال يعبر عن الحالة الأولى، فالتاريخ ليس دائماً قاطعاً، بل المصادر والمراجع وكتب التاريخ اختلفت كثيراً عند الحدث الواحد، وهذا الخلاف ينشأ من اختلاف الرواة، فالتاريخ المكتوب بقلم المنتصرين سيختلف عن نفس التاريخ حين يكتبه الجانب المهزوم، والتاريخ حين يكتبه رجل الدين سيختلف عما كتبه المستشرق، وهكذا ستجد لأغلبية الأحداث التاريخية روايات مختلفة وربما متناقضة، ولا يُرجِّح إحداها على الأخرى إلا رغبة المُتحري أو القارئ في تصديق رواية ونبذ الأخرى.
العباسة وجعفر
فمثلاً لو رجعنا للأعمال التي تحدثت عن هارون الرشيد، سنجد أن رواية نكبة البرامكة في عهده تختلف من عمل لآخر، فالمسلسل المصري يحكي عن رغبة جعفر البرمكي في الزواج من العباسة ورفضها، بينما المسلسل السوري أبناء الرشيد يحكي عن حب العباسة وجعفر الذي ألّب الرشيد على البرامكة، وكذلك مسلسل الرشيد السوري يروي قصة أخرى، وهنا لو عدنا للتاريخ سنجد أن المرويات التاريخية تعددت بشدة، بل هناك حكايات ذكرها ابن كثير عن ابن خلكان في الجزء العاشر من كتابه الضخم البداية والنهاية عن هذه الحقبة وعن علاقة العباسة وجعفر لا يمكن تصديقها، فهي تُندي الجبين، ولا يمكن لعمل درامي أن يعتنقها مثلاً، رغم كونها وردت في روايات تاريخية، بل اختار صناع هذه الأعمال مرويات أخرى أقل إثارة للجدل وتخدم الدراما بشكل أكبر.
هل غالية البقمية حقيقية من الأساس؟
المسلسل السعودي غالية البقمية الذي يعرض في الموسم الرمضاني الحالي يتحدث عن حياة الأميرة البدوية التي هزمت جيوش العثمانيين الذين أرسلهم محمد علي باشا، والمرويات التاريخية تعددت، فمنها ما يرى بأن غالية أصلاً شخصية خيالية لم يكن لها دور في التاريخ، بينما يعظم آخرون من دورها بأنها كانت تقود الجيوش بذاتها لتهزم جيش الباشا، في الوقت الذي ذهب مؤرخ مثل شارل ديدييه في كتابه رحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى كونها كانت توصل رسائل زوجها الأمير المريض إلى الجيش، كما كانت الوصية على ابنها الطفل بعد وفاته، وهكذا من حق صناع العمل الدرامي أن يختاروا الرواية التي خدمت عملهم الدرامي ببطولة غالية.
صداقة الصباح ونظام الملك والخيام
كذلك مثلاً لو تابعنا أيضاً الحشاشين الذي يتصدر الدراما التاريخية هذا العام سنجد أن هناك مصادر تاريخية معتبرة مثل "جامع التاريخ" لرشيد الدين فضل الله، و"الإسماعيليون تاريخهم وعقائدهم" لفرهاد دفتري، تكلمت عن صداقة حسن الصباح، وعُمر الخيام، ونظام الملك، لتحكي هذه المصادر حكاية دراستهم وهم صِبيان معاً وعهدهم وهم شباب على أن من يصل أولاً وينجح في مسعاه يأخذ بيد رفيقيه، وكيف وصل نظام الملك وأصبح وزيراً ليزوره صاحبا الطفولة مطالبين إياه بأن يفي بعهده القديم، وقد فعل، وهي الحكاية التي اعتمدها مسلسل الحشاشين والتي اعترض عليها الكثير من المعلقين عبر مواقع السوشيال ميديا، مؤكدين أن هذا ليس التاريخ، وأن الصباح لم يعاصر نظام الملك والخيام، ولكن الحقيقة أن هذه مروية أخرى لبعض المؤرخين المعاصرين، وليست خطأً تاريخياً.
وهنا يُطرح سؤال آخر: هل يجب على صناع الدراما الالتزام بمروية تاريخية واحدة؟ فماذا يفعلون عندما تتعدد الروايات ولا تُرجَّح إحداها على وجه اليقين؟
هنا المنطق الوحيد أن من حق صانعي الدراما أن يختاروا من المرويات التاريخية ما يؤيد رؤيتهم الدرامية، وما يصنع أحداثاً أفضل وصورة أجمل وحبكة درامية أقوى، فهم لم يخرجوا من كتاب التاريخ، هم فقط اختاروا من الروايات المتعددة ما شعروا أنه يخدم رؤيتهم الدرامية وهذا حق من الصعب الاختلاف معه.
دراما أم أيديولوجيا
الحالة الثانية هي حينما يختار صناع الدراما تغيير التاريخ المتفق عليه، فكما قلنا مثلاً لم يكن عيسى العوام مسيحي الديانة، ولم يرفض سيف الدين قطز، قتل فخر الدين أقطاي كما صور لنا فيلم واإسلاماه مثلاً، بل يؤكد التاريخ أن قطز قد قتله بالفعل.
نسب صلاح الدين يصنع أزمة
وهناك تغيير تاريخي فادح في المسلسل التركي صلاح الدين، حيث يظهر أن صلاح الدين الأيوبي هو ابن نور الدين محمود بالتبني، وهو أمر لا أساس له من الصحة، فلم يطلب نور الدين، من نجم الدين أيوب أن يتبنى صلاح الدين ابنه على الإطلاق، ولم يمت ابن نور الدين محمود الحقيقي عند ولادته، بل ولد وكبر وكان على خلاف مع صلاح الدين بعد خلافته لنور الدين محمود.
عودة مصر من المذهب الشيعي للسنة
حتى المسلسل السوري المبهر صلاح الدين الأيوبي، والذي ألفه الكاتب المتميز وليد سيف، وأخرجه المخرج الراحل المتألق حاتم علي، وقع في هذا الفخ عندما حكى علاقة صلاح الدين بالعاضد لدين الله آخر الخلفاء الفاطميين في مصر، حيث أظهرها علاقة ودية ونبيلة، وأظهر العاضد كشخص راقٍ مغلوب على أمره، وهو الأمر المنافي للتاريخ ولحقيقة قضاء صلاح الدين على المذهب الشيعي في مصر وعلى الخلافة الفاطمية وإعادة مصر إلى الخلافة العباسية السنية مرة أخرى.
وهنا في هذه الحالات يحتار المشاهد، فهل هذا التحريف الشديد في التاريخ المتفق عليه، ينبع من رؤية درامية لصانعي العمل؟ أم من رؤيتهم الأيديولوجية، سواء السياسية أم الدينية، والتي تريد الانتصار لفكر معين يعتنقه صناع العمل فيحرفوا التاريخ من أجله؟ وهل يجوز من الأساس أن يغير صناع الدراما التاريخ لأي مبرر؟
احذر.. المسلسلات ليست مصدراً تاريخياً
هذا هو الرد الأول الذي ستسمعه وتتلقاه عند الاعتراض على تحريف التاريخ في الدراما، وأن المسلسلات والأفلام لا يجوز أن تكون مصدراً معلوماتياً عن التاريخ، والحقيقة أنك مهما اتفقت أو اعترضت مع حق صناع الدراما في التحريف، فإنك يجب أن تتفق مع هذه الحقيقة، فالكتب والمراجع وقاعات الدرس هي مكان تلقي التاريخ وليس شاشة التلفزيون أو السينما.
فالحبكة الدرامية تجبر صناع الأعمال على اختلاق ما لم يوجد، فكتب التاريخ لا تحوي حوارات الشخصيات التاريخية، ولا يمكن اعتمادها سيناريو للأعمال الفنية، لذا لكل صانع عمل رؤية محددة يقدمها، قد نختلف عندما تحيد هذه الرؤية بشكل حاد عن التاريخ، ولكنه في النهاية مهما اجتهد لن تقدم رؤيته للتاريخ بشكل كامل.
لذا يجب على المتفرج أن يعي ذلك، المسلسلات ليست مصدراً للمعرفة، وليس كل ما نراه عبر الشاشة حقيقة، فالمشاهدات، والإثارة، والأيديولوجيات، والأموال، والفن ذاته، كلها تتحكم بتوجيه الأعمال التاريخية بأكثر مما يفعل التاريخ.
من هذا المنطلق فمن حق صناع العمل أن يقدموا رؤيتهم التي يمكننا ألا نتابعها إذا حادت عن المقبول، ولكن من الأمانة العلمية أن يكتب صناع أي عمل قرروا أن يغيروا الحقائق أن العمل رؤية صانعيه ولا يلتزم بالحقائق التاريخية، لكي يتابع المشاهد العمل كعمل درامي يقتبس من التاريخ أو كعمل فانتازي مختلف عن الواقع.
التاريخ الذي عشناه يتغير كل دقيقة
وفي النهاية فإن الاعتقاد بأن للتاريخ رواية واحدة حقيقية نظرة رومانسية حالمة لا وجود لها، فالتاريخ الذي عشناه بأنفسنا يُقدم له عدة روايات مختلفة، ففترة كفترة الربيع العربي والتي عاصرها الجيل الحالي يوماً بيوم ولحظة بلحظة، ستسمعها بعشرات الطرق المختلفة وفقاً للمصدر الذي يحكي هذا التاريخ القريب.
ليُشيطن أشخاصاً وتُرمى مسوح البطولة على آخرين، والطريف أن من تمت شيطنته في رواية هؤلاء ستجده بطلاً في الرواية الأخرى والعكس صحيح، وبعد مئات السنوات عندما تروى حكاية زمننا هذا سيحتار متلقيها أي الروايات كانت الصواب؟ لتتوه الحقيقة بعد أن أصبحت تاريخاً.
وستصنع الأعمال الدرامية وفق رؤية صانعيها مهما حكت المصادر الأخرى وقائع مختلفة، لذا فإن كان التاريخ ذاته يتغير ولا يمكنك أن تثق به بشكل كامل، فماذا عن الدراما المُقتبسة عنه؟
لذا دعونا نشاهد حواديت وحكايات ملونة، وأفكاراً وحوارات قد تكون شيقة، ولكن ليبقى عقلنا واعياً أن كل هذا للتسلية وليس للتثقيف، وأن الواقع يختلف تماماً عن كل هذا، فلا توجد رواية واحدة متفق عليها للتاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.