في ظل مناخ قمعي وتحت وطأة أنظمة ديكتاتورية غلّفت قلوبها بالحديد وأسدلت على عيونها ستائر الظلم، تنبت بين شقوق الأسفلت وفي ثنايا الأزقة المظلمة، براعم الشجاعة. تلك البراعم التي تتغذى من رحيق الإنسانية وتسقى بماء الإصرار، لتزهر في أشد اللحظات قتامة، لتُظهر أن الحقيقة لا يمكن أن تخفى في بلداننا العربية حتى لو حاوطها الظلم من كل جانب.
في متاهة الحياة اليومية حيث تتقاطع خطوط الظلم مع مسارات الألم، يبرز الإنسان كشخصية محورية في ملحمة البقاء والصمود. هذا الصمود لا يعتمد فقط على قوة السواعد أو حدة السيوف، بل ينبع أيضاً من عمق الأحاسيس وشجاعة القلوب. في هذا السياق، تأتي قصص الشجاعة والحزن كلوحات فنية ترسم معالم النفس الإنسانية في أشد حالاتها صدقاً وتأثيراً.
فتظهر هذه القصص كيف يمكن للإنسان أن يقف صامداً في وجه آلة القمع الباردة. الشجاعة لا تكمُن فقط في الأفعال البطولية، بل أيضاً في القدرة على الشعور والتعبير عن هذه المشاعر بصدق وعمق. مثل ما فعل المواطن المصري، عبد الجواد السلهمي، برفعه علم فلسطين وصرخته العالية، وذلك المواطن الباكي، بدموعه التي سالت فعبّر عما في قلب أمه من كبت وألم، كلاهما يمثل الوجه الإنساني القادر على التحدي والتأثير.
لم يجد عبد الجواد السلهمي بُداً من الصعود إلى لوحة إعلانية في محافظة الإسكندرية حاملاً علم فلسطين، في رمزية قوية للتحدي والتضامن. صرخته "السيسي خاين وعميل – أنا مش خايف منك يا سيسي.. فليسقط السيسي.. فليسقط كل خاين وعميل"، ليختم كلامه بالتكبير"الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر". لم تكن مجرد كلمات، بل كانت تعبيراً عن إحباط وغضب عميق تجاه موقف حكومته التي يراها متواطئة مع الاحتلال ضد أهل غزة. إن صوت هذا الرجل وتلويحه بالعلم الفلسطيني في قلب ساحة سيدي جابر بالإسكندرية لم يكن تعبيراً عن موقف سياسي؛ بل كان صوتاً يعبر عن كل المظلومين، كل المقهورين، كل من ضاقت به سبل الحياة تحت وطأة القمع. كلماته التي رفعها عالياً، تحدياً للسلطة وصرخة ضد الظلم، كانت كالسيف يقطع في أوهام التخاذل والضعف وقلة الحيلة التي تحاول الأنظمة العربية أن تزرعه في شعوبها.
صوت هذا المواطن المصري، صوت أمة؛ إذ أظهر الفجوة الواسعة بين تطلعات الشعوب العربية ومواقف حكوماتها المتخاذلة. السلهمي، بهذه اللفتة الجريئة التي في الأغلب ستكلفه الكثير، جسّد الصوت الغاضب والمُحبط من هذا الواقع.
وفي مشهد آخر لمس قلوبنا وعبّر عن مرارتنا، ظهر مواطن مصري في شارع من شوارع مصر، تنهمر دموعه كأنهار من حزن لا ينتهي، صوته المختنق بالدموع يعلو متسائلاً عن إنسانيتنا الذي تقف متفرجة على مأساة أخوتنا في غزة. "افتحوا لنا الحدود نروح نموت معاهم"، هذه الكلمات ليست مجرد جملة قيلت في لحظة يأس، بل كانت تعبيراً عن شعور كل شعوبنا العربية من أول الحرب؛ إذ لا نرى الحياة إلا بعين أخوتنا في غزة، ونود أن نكون عوناً لهم ضد الاحتلال أو على الأقل نشاركهم الألم والمأساة.
شجاعة وحزن الرجلين أثناء هذا الظلم ليست مجرد حكايات فردية، بل هي صدورنا الملبدة بالقهر والكبت. عبد الجواد السلهمي بشجاعته، والمواطن الباكي بحزنه، كلاهما يجسد أرواح الشعوب العربية الأبية التي لا تقبل الظلم ولا تسكت عن الخيانة. هذه المواقف تقول إننا ما زلنا كأمة لدينا ما نحيا من أجله، وأننا ما زلنا هنا.
لم يتحمل الضمير الحي لهذين الرجلين السكوت عن الجرائم التي تمنع الغذاء والضروريات الأساسية عن أخوتهم في غزة، الذين يُذبحون ويُجرحون ويُشردون من بيوتهم.
"السيسي خاين وعميل"، بهذه العبارة الجريئة، يعلن تبرؤه من تواطؤ الحكومات العربية وتخاذلها، وتراجع الروح الأخوية التي كانت يوماً ميزة العرب، معبراً عن وجع عميق لضمير عربي يئن تحت وطأة خذلان القيم الإنسانية النبيلة، والانتماء الوطني المصري الصادق، والغيرة العربية الأصيلة. هذه الكلمات، التي صدح بها عبد الجواد السلهمي، ودموع الرجل الآخر، ما هي إلا صرخة من قلب عربي مكلوم، تدعو إلى إعادة إحياء الشهامة والنخوة العربية الحقيقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.