على مرّ التاريخ، عرفت البشرية تقدماً وتطوراً ملحوظاً في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والسياسية…، هذا التقدم ساعد الإنسان على قضاء مهامه في وقت قياسي مقارنة بالماضي، ويبدو أن هذا التطور كان من ورائه العقل الإنساني، على اختلاف المناطق الجغرافية التي ينتمي إليها الإنسان. وقد أسهمت مختلف الأجناس البشرية في تطور الحضارة الإنسانية. وفي ذات الاتجاه لعبت التكنولوجيا دوراً بارزاً في نقل ما يجري من عبر العالم.
وما يهمنا بالدرجة الأولى هنا، هو التركيز على الوقت الحالي، ومحاولة تسليط الضوء على جوانب من التطور العلمي والتكنولوجي، والنظر إلى الواقع، وذلك على ضوء مقياس العقل باعتباره المحرك الأساسي للتطور والتقدم. وتجدر الإشارة إلى أنه قد يكون عكس ذلك إذا لم يحسن استغلاله أو تم استغلاله بشكل بشع، في الحروب وافتعالها مثلما نراه منذ فجر التاريخ إلى اليوم، سواء في العالم أجمع.
غني عن البيان، أن العقل البشري، اخترع العديد من الصناعات والأدوات التي كان لها دور هام في قلب موازين الحياة العادية، وإحداث قفزات نوعية في مجالات متعددة ومنها: وسائل التنقل (الطائرات، القطارات، البواخر، السيارات…)، وفي مجال الاتصال والتواصل (الهواتف الذكية، الحواسيب…)، وموازاة مع ذلك، شمل التقدم التكنولوجي مجال الأسلحة النووية من صواريخ عابرة للقارات، والقنابل الذرية، وهذه الأسلحة المدمرة من شأنها في حالات الحروب أن تبيد الإنسان ومنجزاته الفكرية والعمرانية، وهناك أيضاً التطور المهول في الأسلحة البيولوجية التي تخلف بدورها ضحايا، وتستعمل لغايات وأهداف معينة في السياسات الدولية. بل يمكن القول إنها وسيلة للتحكم والإخضاع بما يتماشى مع خلق رأي موحد إعلامياً وتوجيه الرأي العام بشكل أو بآخر نحو الاعتقاد بفكرة ما.
أمام هذا التطور، وبالنظر إلى ما يجري في العالم في محطات مختلفة تشهد نزاعات وحروباً، يمكن أن نتساءل وبشكل مشروع: هل العقل الإنساني مهما وصل إليه من تقدم قادر في زمن من الأزمنة على أن يهلك البشرية؟ وما هي مبررات استمرارية الحروب الدولية في العالم؟
واقعياً، ليس بالأمر السهل الإجابة عن هذا السؤال دون امتلاك خلفية معرفية وعلمية بما يقع، وذلك نظراً لتعدد مجالات الاختراع والابتكار، سواء من أجل ما هو خير للإنسان أو من أجل ما هو شر له، وعلى العموم العالم يعج بمتناقضات كثيرة من هنا وهناك.
وإذا ألقينا نظرة على ما وصل إليه الإنسان في مجال الطب، نجد أنه قادر الآن على التلاعب بالفيروسات والتحكم فيها، إضافة إلى معرفة ما يقع داخل الدماغ ووظائفه وامتلاك القدرة على إحداث هزات فيه – والمختصون في هذا المجال يعرفون ذلك- وكل هذا انطلاقاً مما وصلت إليه المختبرات العلمية الطبية في مختلف الدول التي يسهر عليها الإنسان وينفق عليها الأموال.
هذا الحديث يجرنا، إلى المسرح الدولي الذي تتنافس فيه القوى العظمى من أجل الوصول إلى القمة والقيادة. وبالتالي، الرغبة في السيطرة على الكل وإخضاعه وخاصة على الضعيف الذي لا يسمع له ولا يُعَدّ بصوته أمام الكبار صانعي السياسات والقرارات الدولية.
التقدم التكنولوجي والحروب
استناداً لِمَا نلاحظه في الساحة الدولية، آخذين بعين الاعتبار التطور الحاصل في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأهميتها البارزة في انتشار المعارف وتنقلها من مكان إلى آخر، إضافة إلى تنظيم وحل مشاكل الإنسان، هذا إلى جانب دور المؤسسات الدولية والقانون الدولي في حفظ السلام. يبدو أن الرغبة في الهيمنة والسيطرة على العالم تؤدي إلى عمل الدول -القوية- بكل الأوراق، سواء كانت بشكل سلمي أو بالعنف عن طريق التخريب والتلاعب بالقضايا لصالح الهيمنة والتمركز في المواقع الجيبوليتكيّة الهامة، وذلك من أجل مكاسب وثروات عدة مثل (البترول أو الغاز أو التوسع في المجال الحيوي، أو من أجل تأمين ثروات غذائية مهمة…)، مما قد يتسبب في إشعال حروب سببها الإنسان المعادي للإنسانية، وتقدمه في أساليب الحروب وخاصة الجديدة منها الحروب الإلكترونية واختراق ملفات ومواقع واستعمالها في الحرب، وعندما يكون الميدان ساحة للمعارك فالعديد من الأرواح تموت بما صنعه الإنسان تحت شعار الإنسانية.
ومن ناحية أخرى، أمام التطور العلمي وتراجع الأخلاق، أصبحت بمقدور بعض الجهات العمل بكل الوسائل – خصوصاً التي تؤدي إلى أشكال العنف والحرب-، دون النظر إلى ما قد يترتب عنها من خسائر مادية أو بشرية والواقع يشهد على ذلك، ونسجّل أن عملية البناء تتم بشكل صعب وتحتاج الكثير من الوقت، بينما عملية التدمير فهي سهلة وفي وقت وجيز بالنظر إلى التطور الهائل في الأسلحة المدمرة وما تحدثه من خراب ورماد.
فالحداثة، التي ذات يوم تمت الإشادة بها كمحررة للبشرية من قيودها التقليدية ومنقذة للعالم، تجد نفسها الآن محور انتقادات حادة. هذه النظرة المثالية تتحطم أمام واقع يظهر أن الحداثة قد قادت الإنسانية إلى عتبة عالم تتخمه المخاطر المرتبطة بالتقدم التكنولوجي. التأثيرات العشوائية وغير المتوقعة لهذا الانتصار الحداثي تشكل الآن اللبنات الأساسية لمشهدنا المعاصر، مما يشير إلى أن الحداثة قد تحولت من منقذة إلى مسبب لمشاكل جديدة.
أولريش بيك، عالم الاجتماع الألماني، استشرف هذه الإشكاليات في كتابه الرائد "مجتمع المخاطر: نحو حداثة جديدة"، الذي نُشر في عام 1986. في هذا العمل، يُوضح بيك قضايا متنوعة ومعقدة تواجه العالم المعاصر، منها تحديات العولمة، والنزعة نحو الفردية، والأزمات البيئية والمناخية، بالإضافة إلى التطور التكنولوجي المتسارع. بيك يصف حالة العالم الحديث بأنها "مجتمع المخاطر"، مشيراً إلى أن المجتمع الذي كان يسعى للتقدم والتطور بواسطة الحداثة قد وجد نفسه الآن يواجه تبعات هذا التقدم على نحو غير مسبوق.
إن الأمر يزداد تعقيداً في موضع آخر، حين تعلو عقلية التعصب لأي عرق أو مذهب معين بين التركيبات الاجتماعية المختلفة، -والتي قد تنتمي إلى دولة محددة أو بين دولة و دولة أخرى خارج الحدود- الشيء الذي يؤثر ويزيد من الخلافات. ومن جهة أخرى، فإن وهم امتلاك الحقيقة والرأي الواحد الأحادي الذي لا يقبل الرأي الآخر، كثيراً ما نتجت عنه حمامات دماء، والتاريخ وثّق ذلك-ولا يزال- في أكثر من كتاب.
لذلك، يكون من المفيد أن نرى أن ما يجمع البشرية أكثر ما يفرقها، لذا يجب النظر للإنسان كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، والمشترك الإنساني هو الحق في الحياة، وعليه، يتحقق التعايش المشترك وتحل النزاعات بالوسائل السلمية، ويكون الحوار الحضاري شكلاً من أشكال التفاهم ومعرفة الآخر في سبيل السلام وليس الحرب.
ختاماً، يمكن القول إن العقل الإنساني حقّق إنجازات وتطورات هامة ساعدت بشكل فعّال على الاستفادة من كل الأدوات العلمية والتكنولوجية في بناء وتقدم الحضارة الإنسانية بمختلف أبعادها. لكن من جهة أخرى، فإن سوء استعمال العقل قد يؤدي في وقت من الأوقات إلى تدمير البشرية عن طريق الحروب بأنواعها المختلفة، والإشكال أن هذا الدمار سيقضي على الإنسان ويكون سبباً في هلاك العقل الذي هو نفسه مبتكر وصانع كل هذه الإنجازات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.