يطرح الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني في الكونغو الديمقراطية مجموعة من التحديات على الفاعلين الحقوقيين والسياسيين والنشطاء من أجل السلام حول العالم، فمنذ نشأتها لم تهدأ الكونغو الديمقراطية من الصراعات الداخلية، وعلى الرغم مما تتوفر عليه البلاد من المعادن النفيسة والثروة الباطنية كبيرة، فإنها تعتبر من البلدان الأفريقية الفقيرة، وهو الأمر الذي يرجعه بعض المراقبين إلى الانتشار الرهيب لعصابات التهريب، الذي يرجع بدوره بالطبع الى الفساد في بنية الدولة.
تمتلك الكونغو الديمقراطية خزائن طبيعية استثنائية، تشكل اللبنات الأساسية لاقتصادات العالم الجديد وأبرز تقنياته المتطورة، مما يجعل المعادن الثمينة مطمعاً للعالم أجمع. تصرح بيترونيل فاويكا، الفائزة بجائزة المرأة لبناء السلام من المعهد الأمريكي للسلام، بأن "اقتصاديات العالم والتكنولوجيا الجديدة وتغير المناخ كلها تزيد من الطلب على المعادن النادرة في شرق الكونغو، والعالم يسمح للعناصر الإجرامية بسرقة هذه المعادن وبيعها، وذلك في الوقت الذي يعامَل فيه العمال في المناجم بوحشية…".
إن الطمع والتهافت من الدول الكبرى والغربية تحديداً، على استنزاف الثروات لا يقتصران على جغرافيا الكونغو الديمقراطية وحسب، بل يتعدانها ليغمرا القارة الأفريقية بأكملها، وذلك تحت أنظار المجتمع الدولي المتفرج. إذ يبرز الاستعمار الغربي كمهندس رئيسي لهذا السيناريو المظلم، متخذاً من القارة ساحة لصناعة دول تتسم بالهشاشة والولاء له فقط، فتصبح تلك الدول عاجزة عن مقاومة تيارات التهريب العنيفة التي تنخر اقتصاداتها وتكبلها في دائرة الضعف الأبدي، وربما يجعلنا نفهم علة القارة السمراء المنهوبة.
تعد جمهورية الكونغو الديمقراطية بمثابة العملاق المنهوب الملقب بـ"خزان المعادن"، حيث تزخر بما يقارب 70% من احتياطيات الكوبالت العالمية، وهو العنصر الحاسم لتشغيل بطاريات أيون الليثيوم الركيزة للسيارات الكهربائية ومجموعة واسعة من التقنيات المستدامة. إلى جانب الكوبالت، تفيض أرضها بالذهب، والنحاس، ومعادن نفيسة أخرى، تشكل كنوزاً غير مستغلة.
عبر سلسلة من التحقيقات المعمقة التي أجرتها الأمم المتحدة، منظمة غلوبال وتنس لمكافحة الفساد، جمعيات حقوق الإنسان، ولجان تحقيق محلية، تم الكشف عن شبكات تهريب معقدة تقوم بنقل الذهب، والنحاس، والكوبالت، ومعادن أخرى من مناجم الكونغو الغنية وبيعها بطرق غير قانونية في الأسواق الدولية. هذه المعادن، المستخرجة في شرق وجنوب الكونغو، تجد طريقها عبر الحدود إلى بوروندي وأوغندا، حيث تُباع لتغذية الاقتصادات العالمية.
تؤكد تقارير صادرة عن خبراء الأمم المتحدة والإنتربول في السنوات الأخيرة، أن الجماعات المحلية العاملة في مناجم الذهب، والتي تُدير عملياتها بطرق حرفية، تُسهم في تغذية هذه الشبكات عبر بيع المعادن لمهربين محترفين. هذه الأنشطة لا تعزز فقط الاقتصادات الظلية، بل تؤثر سلباً على استقرار القارة وتعيق التنمية المستدامة لهذا البلد الغني بموارده.
وقد أفاد خبراء تابعون للأمم المتحدة، بأن تهريب المعادن النفيسة يمول الحروب، إذ إنه خلال الحربين الأهليتين في التسعينيات بجمهورية الكونغو الديمقراطية، دخلت القوات العسكرية لأوغندا ورواندا إلى شرق الكونغو، حيث استولت على مناجم المعادن، محققةً أرباحاً طائلة لبلدانهم. إضافة إلى ذلك، اتُّهم وحوكم بالفعل بعض الفاعلين المحليين والدوليين، من ضمنهم قادة عسكريون مثل بوسكو نتاغاندا، الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، وشخصيات عالمية مثل رجل الأعمال البلجيكي آلان جويتز، إضافة إلى الملياردير الإسرائيلي وتاجر الماس الأفريقي دان غيرتلر، بلعب دور محوري في عمليات تهريب وتسويق الموارد الكونغولية إلى الخارج.
الكونغو الديمقراطية والاستعمار الذي لا ينتهي
إن الرابط المعقد بين الثروات الهائلة، وموجات العنف المتواصلة، والفساد المستشري في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لا يُعتبر ظاهرة حديثة النشأة أو نتاجاً للمجتمع الكونغولي بحد ذاته. بل تعود جذور هذه الأزمات إلى فترة الاستعمار الأوروبي، حيث كانت الكونغو تحت حكم المستعمر البلجيكي، وتحديداً تحت إدارة الملك ليوبولد الثاني من بلجيكا. هذا الأخير هو من زرع بذور العنف التي لا تزال تؤثر على البلاد حتى الوقت الراهن. استخدم ليوبولد العنف المروع كأداة لإرساء أسس مستعمرة تجارية مربحة، وذلك بين مئات الجماعات العرقية المتنوعة في حوض نهر الكونغو.
عقب الاستقلال في 1960، سرعان ما انغمس البلد في صراعات فصائلية وانقلابات، مما أسس لنظام دكتاتوري استمر ثلاثين عاماً. خلال هذه الفترة، تلقت الكونغو دعماً من الولايات المتحدة والدول الغربية، خاصة في سياق الحرب الباردة.
في عام 2019، شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية أول انتقال سلمي للسلطة، حيث تولى الرئيس المنتخب فيلكس تشيسيكيدي الحكم، وأعيد انتخابه لولاية ثانية في ديسمبر/كانون الأول في خضم انتخابات مضطربة، زادت من حدة الخطاب القومي المتشدد والتوترات الفصائلية. أعرب الرئيس عن دعمه لإصلاحات مكافحة الفساد، لكن بحسب تقارير المراقبين، لم يتم إحراز تقدم كبير في هذا الصدد. وأكدت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، مثل هيومن رايتس ووتش، الحاجة المُلحة لتنفيذ إصلاحات شاملة تشمل استقلال القضاء، ومحاكمة المسؤولين عن الفساد، ووضع حد للقمع والاعتقال السياسي، وحماية المناطق المتأثرة بالحروب.
النضال من أجل السلام
بيترونيل فاويكا، الناشطة والوسيط في النزاعات، خاضت تجربة مباشرة بمناطق النزاع الملتهبة بشرق الكونغو الديمقراطية، حيث عملت على تحرير الرهائن والتوسط في النزاعات. ولم تقتصر مهامها على ذلك، فقد كانت أيضاً مدربة في البرنامج الوطني الرامي إلى تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار في البلاد. بيترونيل فاويكا، التي تعمل على تأهيل شبكة من النساء لبناء السلام في كافة أرجاء الكونغو، تشدد على أن جهودها وحدها لا تكفي. تُعلن بصوتٍ مرتفع عن الحاجة إلى معالجة الدعم الذي توفره الدول الأخرى، ومشترو المعادن، والشركات الكبرى، ومصنعو التكنولوجيا الفائقة، وملايين المستهلكين لنظام الإمداد الاقتصادي العالمي، الذي يستند إلى التعدين الوحشي وغير القانوني للموارد والشعب الكونغولي.
وفقاً لفاويكا، تظل مصالح الشركات الكبرى وتجار المعادن وحلفائهم في البنى الدولية متمركزة حول الربح، دون اعتبار لحقوق الإنسان. هذا التركيز المطلق على الربح لا يبرر، بأي حال من الأحوال، التقاعس الملاحظ من جانب المضطهدين في البلاد
تُعد جمهورية الكونغو الديمقراطية والقارة الأفريقية بأكملها شواهد حية على استمرارية آثار الاستعمار وعدم العدالة في النظام العالمي. يتجلى هذا بوضوح في كيفية استغلال ثرواتها الطبيعية واستنزاف مواردها بما يخدم مصالح الدول والشركات الأجنبية، دون مراعاة لحقوق ورفاهية شعوبها. إن الحضارة التي نشهدها اليوم، بكل مظاهرها من تقدم تكنولوجي وازدهار اقتصادي، مدينة بشكل كبير للنهب المستمر والاستغلال الوحشي لشعوب لم تُمنح حتى الأساسيات الضرورية للحياة الكريمة.
الأمر لا يتعلق فقط بالثروات المادية التي تم استخراجها بطرق غير عادلة، بل يمتد ليشمل الإرث الثقيل من الصراعات، والفساد، وعدم الاستقرار، الذي تُرك كعبء يثقل كاهل هذه الدول. على الرغم من الاستقلال السياسي الذي حظيت به العديد من دول القارة، فإن الاستقلال الاقتصادي لا يزال بعيد المنال، مع استمرار تشابك مصالح القوى العالمية في أراضيها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.