المعضلة الحقيقية في دنيا العرب، برغم إدراك الملايين للحقائق، أن البعض محكوم بما يشبه الترويض الهرمي. ليس لأن الحاكم هو فلان أو علان، بل لأن المنظومة القائمة منذ ما سمي بـ"الدولة العربية الحديثة"، بعد تصفية تركة الدولة العثمانية بين دول الغرب وتسطير حدود العرب تسطيراً مدرسياً، تقوم على جعل الأوطان كمزارع مملوكة لطبقات كومبرادور وأوليغارشيا، بوصلتها باتجاه الغرب، ومفاتيحها أمثال الحاخام إلياهو مالي وغيره ممن يُقنعون اليهود بأنهم حقاً "شعب الله المختار".
في تحول البلاد إلى الحكم بأنصاف آلهة، خصوصاً في جمهوريات عسكريتارية وراثية، استبدل المستعمر القديم السوط بجزرة الإخضاع الهرمي.
نصف الآلهة من منظومة الحكم عليه أن يثبت إخضاع بقية مكونات الهرم، فيصير الإنسان مسحوقاً خانعاً، لاهثاً وراء أبسط ما يحققه غيره من شعوب، كمسلمات وواجب مؤسسات الحكم ولا نقاش فيها.
المسحوق في منطقتنا مسحوق منذ المهد، في أسبوعه الأول تقام له "حفلة تنصيب" في الهرم. تُقرع الأجراس، وتدق التمتمات بصوت صارخ، كتلقين في درس أول لمعاني "اسمع الكلمة"، أي "اخضع" ولا تتمرد حتى لو استعبدوك.
في الهرم، حدث لا حرج عن تعاليم تنفيس الاحتقان بعنصرية وانفصام، فيصير "لا فرق بين عربي وأعجمي" و"كلكم متساوون كأسنان المشط"، مجرد فولكلور التفذلك "المثقف". عند أول اختبار يهب دفاعاً عن المتسلط باسم طهرانية الوطنية.
الحقيقة هي أنه منذ المهد، يبدأ العقل المسحوق امتصاص باقي الدروس من أصحاب الخبرة في الخنوع، الذين كبروا على توارث شكر المختار والعمدة والشرطي والمخبر والعسس وسائق الحافلة وجابي فواتير الماء والكهرباء والهاتف، إلى آخره، والامتنان لمستشفى رث أشبه بمسلخ بشري، وتقبيل يد شيخ الحي والمسجد، والخضوع لغضب ورضا "أبونا" في الكنائس، فيحدد له دائرة صداقاته حتى، فلا يختلط مذهبه بمذاهب أخرى، مُبدياً امتنانه إن ابتسم "أبوه" الكنسي في وجهه الشاحب، وصولاً إلى الوزير وسائقه والغفير، والرئيس "نصف الإله" على عطاياه وكرمه بإكرامية رمضان والعيد وعيد عرشه وتطهير صغيره وريثه وصفو مزاجه برضا الغرب عليه، ولسخاء حوانيته والجمعيات بتأمين قطعة لحم وحبات أرز ورغيف خبز، إلى بقية قائمة "الرضا بالنصيب" وفرض درس"العين لا تعلو على الحاجب". فلازمة الامتنان والشكر على طول خط الحياة، وعلى أشياء هي من مسلمات أبسط حقوق الإنسان في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، تعني أن خللاً واضحاً في تحويل المواطنين إلى موظفين خاضعين في مزرعة الحاكم، الذي لا تغيب صورته عن الجرائد والتلفاز حتى لا يتبين العقل المسحوق أنه حاكم بشر، ويمكنه أن يشيخ مثله، ويموت أيضاً (رغم أنهم يسمونه القائد الخالد أحياناً)، وكي لا يكتشف كذبة أنه "مرسل من عند الله" ونسبه إلى "الصحابة".
الرابط بين ما قاله الحاخام إلياهو وهذه الحالة العربية، أن إلياهو يواصل المسيرة التي واصلها أيضاً عوباديا يوسف ومائير كهانا وموشيه ليفنغر، منذ عهد زئيف جيبوتنكسي، حيث كان الناتج "الذبح للعرب" هو تصويت لانتخاب إرهابيين بياقات بيضاء، أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، وبنيامين نتنياهو بنفسه، وقبلاً أرئيل شارون سفاح "صبرا وشاتيلا" وقاتل الأسرى المصريين، ليكونوا مع غيرهم واجهة مدنية للظلامية التلمودية والدموية الصهيونية.
وما كان ممكناً لهؤلاء المعلنين لهوس سفك الدماء والتدمير أن يأمنوا التصريح والفعل والإسناد الغربي لولا أن عالمنا العربي {وبمثل هذا النوع من هرمية حكم فرض الخنوع}، يعيش على حافة تاريخ من الاشتغال على إيصال العربي إلى جلد الذات؛ كالقول إن الخطأ فينا.. ونحن نستحق.. كذا وكذا… وتهكم واستخفاف بقيمة ومكانة ذاته ومحيطه.
إذن، التطبيق الحرفي لفكر زئيف جابتونسكي وإرهاب إرغون وشتيرن وهاغاناه، التي يتفاخر بها الصهاينة في متاحفهم، بما فيها قتل ممثلي الأمم المتحدة، مثل الوسيط السويدي فولك برنادوت (1948)، لم يجابه يوماً على المستوى العربي سوى بما رآه ولمسه الإنسان العربي من الأنظمة في مقتلة حرب الإبادة في غزة خلال 2023 و2024. فصناعة عقل مسحوق ملازم لـ"مصمصة الشفاه" وتغيير محطات التلفاز عن صور المأساة، ورمي الاتهامات عن الجريمة على الضحية، في سياق صناعة "إعلامية" للخنوع، بحجة "قلة الحيلة". فالخوف من مياه عادمة وقنابل غاز مسيلة للدموع وطلقات القمع، مقابل أطنان الحمم التي تلقى على أطفال ونساء ورجال غزة، في الشهر السادس، لتبرير عدم الخروج والتعبير عن أن العربي ليس ذاك الذي يريد أصحاب بروباغندا "صناعة الموت" أن يؤسسوا له، هو خوف يورث بحرفية ويعمق حالة الخنوع إياها، وأحياناً بحشر اسم الله في كل تلك العبودية للمتسلطين بمعونة عمائم العوم على تيار "ولي النعمة".
من المنطقي جداً أن يسأل العربي نفسه سؤالاً: كيف صار التعبير عن التضامن مع شعب شقيق جريمة؟ ورفع علم فلسطين جناية؟.
ليقارن ذلك بما يجري في الغرب، حيث يرفع العلم الفلسطيني أكثر مما ترفعه شوارع العرب.. بل ذلك سيستدعي سؤالاً خطيراً: هل حقاً تتمسك أمة القرآن بالقرآن والإسراء والمعراج؟. كيف وهي تشاهد بعجز مصطنع مجريات سنوات من اقتحامات يهودية وبرعاية رسمية لعملية تهويد الأقصى والقدس، وسط قيادة سلطويي العالم العربي لأوطانهم نحو تطبيع مخزٍ يؤكد تنظيرات الحاخامات عن "الأغيار"، الغوييم، كخدام لليهود في السياق الصهيوني الاستعماري، بتحويل العربي الجيد إما مقتولاً أو خانعاً عميلاً يردد تربية الأنظمة له كقطيع مطيع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.