ربما لن يخالفني الرأي القراء الكرام إن قلت إن الدراما لها دور مهم في تكوين وعي الإنسان، فرغم ما يعيشه العالم اليوم من تطور تكنولوجي وطغيان شبكات التواصل الاجتماعي ومساهمة المؤثرين في صناعة المحتوى، فإن الأعمال السينمائية تبقى لها الأهمية الكبرى، وذلك يرجع لعدة أمور، منها أن هذه الأعمال غالباً ما يشترك مثقفون في كتابتها، ولهذا فهي تكون محمّلة بقيم معينة، كما أنها من المفروض أن تكون لها أدوار تثقيفية بالأساس، والدراما بشكل عام تصنع آراء وأفكار الأجيال القادمة.
كاتب هذه السطور، بحكم تلقيه للتعليم الديني، كان لزاماً عليه دراسة السيرة النبوية من المصادر الأساسية، لكن كلما حاولت الآن مثلاً تذكر مشاهد أو أحداث معينة من السيرة، لا يمكنني تخيل على الأقل بعضها بمعزل عن مشاهد من مسلسل الرسالة، كما أن هناك أحداثاً تاريخية أخرى انطبعت في ذهني وأنا صغير من الشاشة الصغيرة، خاصة الأحداث التي لها علاقة بالدين، هذا بحسب اهتمامي، وإلا قد يختلف التأثير بكل تأكيد حسب نوع الاهتمام الذي يكون عند الشباب، لهذا في اعتقادي أن الدراما لها دور كبير جداً، ولا داعي لأن نذكر بالدور الذي تلعبه الشركات السينمائية الكبرى في صناعة وتشكيل الوعي الجمعي، ولهذا لا يُنكر على المستثمرين في هذا المجال مقدار الأموال التي يصرفونها في هذا الميدان، الحديث عن قضية الدراما يطول لكن ما يهمني في هذا المقال هو ما مدى حضور الدراما الدينية في رمضان في البلدان العربية.
قبل أن أتحدث عن ذلك لا بد من التذكير بأمر مهم، كان الأدب بشكل عام هو الذي يلعب هذا الدور، وأقصد تشكيل المخيال الجمعي، أو صناعة الوعي الجماهيري، الأدب سواء الرفيع منه، مثل القصائد والكتب الأدبية، أو المقامات، أو الموشحات أو غيرها، حسب طرق التأليف القديمة، أو الشعبي الذي قد يراه البعض مبتذلاً، فقبل أن يتحول ذلك إلى الرواية والقصة والمسرح أو غير ذلك من الأنواع الحديثة للتعبير، لكن مع ظهور الصورة قلبت الموازين، وكان الحظ الأكبر للصورة على الحرف، لكن بقي الحرف هناك متخفياً، فالصورة في الأخير لا تعدو أن تكون ترجمة للفكرة على أرض الواقع، وهذه الفكرة لا تعبر إلا عن طريق الكلمة، فالكلمة والحرف رغم الصورة لا يزالان حاضرين، إذ هما الرموز التي تترجم أفكارنا.
أما فيما يخص الشكل التعبيري الآخر، وهو الأدب الشعبي، والذي قد يراه البعض وضيعاً، فإنه كان يلعب هو الآخر دوراً مهماً، فإنه هو الذي كان يغذي خيال الأمم والشعوب، أو هو الذي كان ينقل المعارف والأفكار المعقدة إلى أفكار بسيطة يفهمها الناس، وهو ما يدرس اليوم تحت مسمى المخيال، فالدراما حسب اعتقادي هي امتداد لهذه الأشكال التعبيرية لا غير، من دون الدخول في أصلها، أو الأمة التي اكتشفتها إلى غير ذلك من النقاشات.
الدراما إذا كانت مجرد أشكال تعبيرية، فهي من المفروض استعمالها في تربية الذوق العام، وإذا كان الأمر كذلك فأفضل ما يمكن أن تشتغل به الدراما في هذا الشهر مثلا هو القيم الدينية، حتى لا نقول القصص الدينية لأنها استهلكت في السينما العربية، لكن من خلال تصفحي لقائمة المسلسلات التي ستُعرض هذا الشهر على الشاشات العربية، في مختلف البلدان، كدت أصدم، إذ لا تعدو الأعمال التي ستحضر فيها القضايا الدينية أن تكون معدودة على رؤوس الأصابع، وهذا ما يثير الاستغراب، فباستثناء المسلسل الشهير الحشاشين، والذي يصعب تصنيفه على أنه في الدراما الدينية فهو يركز على الأحداث التاريخية أكثر من القضايا الدينية، هذا بالإضافة إلى إصرار المخرج على عرضه بالعامية المصرية، مما ينقص من قيمة العمل الفنية، حسب اعتقادي، وكذلك بعض المسلسلات الموجهة للأطفال، مثل سر المسجد، عزيز مصر، خاتم سليمان، هكذا يقول القرآن، ومع استثناء آخر مع التحفظ أيضاً على تصنيفه في الدراما الدينية، وهو الشياطين لا تتوب، لن تجد حضوراً لأي مسلسل يتناول القضايا الدينية.
قصدي هنا بالقضايا الدينية، ليس رواية قصة تاريخية لشخصية مشهورة مثلاً، أو حكاية قصة لنبي من أنبياء الله، بل حبك قصة اجتماعية وتضمينها قيماً دينية على سبيل المثال، وهذا لا يعني بالضرورة الذهاب إلى القلاع والبوادي لتصوير هذه الأعمال، أو لا بد من إلباس الأبطال ألبسة سوداء مع عمائم ولحى طويلة، بل قد يكون فضاء التصوير فضاء من الفضاءات التي يعيش فيها اليوم المواطن العادي، لكن القصة تتناول قيم أو قضايا دينية، لعلك أيها القارئ تقول ومن أدراك أن الأعمال الأخرى الباقية التي تتناول قضايا اجتماعية لا تتطرق إلى هذه القيم الدينية، يبدو أن سؤالك مشروع لكن تمهل قليلاً.
هذه القصص التي تُروى أغلبها حقيقة تافه وسطحي، باستثناء بعضها، والتي أتمنى أن تتاح لي الفرصة للكتابة عنها، مثل تلك التي تتناول مثلاً قضية ذوي القدرات الخاصة، والذين يعتبرون مهمشين في المجتمع، ما عدا ذلك فالقصص والتيمات التي تتناولها هذه المسلسلات لا تعدو أن تكون قصصاً سطحية، بل وأغلبها تافه، والطامة الكبرى في ذلك أن طريقة معالجتها سطحية، هذا حسب المنظور العام، وإلا كما أسلفت هناك بعض الأعمال من حيث اختيار الموضوع يبدو أن المخرجين على دراية ببعض الأمور التي يغيبها المجتمع ويتنكر لها وكأنها غير موجودة.
قضايا مثل العدل، الحب، الخيانة، الوفاء، الصداقة، وغيرها كثير من القضايا، هذه أمور ظهرت مع الإنسان، وستعيش معه، وربما لا يختلف اثنان حول أهميتها مهما اختلفت ظروف عيشهم، ومهما اختلفت ربما جغرافياتهم، هذه بدون شك أمور أعطى الدين فيها وجهة نظره من غير شك، لماذا لا تحضر مثلاً في الدراما أم ترى أن قريحة المبدعين حينما تأتي إليها تجف وتنضب، ولا يبقى لهم من الخيال ما يساعدهم على توظيف مثل هذه القضايا، لكن هذا الأمر كما أسلفت لا يعني أننا نتناول القضايا الدينية بطريقة روتينية، بل في بعض الأحيان سطحية أو مستفزة، كل ذلك لخدمة أجندة سياسية معينة، بل ينبغي أن يكون الهدف من ذلك هو الفرد العربي بغض النظر عن وجهة نظره السياسية، ما دمنا بطبيعة الحال نتحدث عن الدراما الدينية في الدول العربية.
قصص الأئمة الكبار، الشافعي، عمر بن الخطاب، عمر بن عبد العزيز وغيرهم، بدون شك سبق تناولهم في الدراما العربية ربما أكثر من مرة، لكن عند التفحص في اختيار هذه الشخصيات دون غيرها نكاد نجزم بأن الهدف من ورائها كان سياسياً، ليس إلا، وهذا يدل على أننا لم نستطع بعد أن نتجاوز بتراثنا عنق الزجاجة، ما زلنا عاجزين عن تحويله إلى تراث كوني، بل ما زلنا نوظفه في حسابات سياسية في بعض الأحيان تكون ضيقة، هذا الأمر حتى وإن كان مبرراً في الماضي، فإنه لم يعد ما يبرره اليوم غير الجمود الفكري لا غير، كما أنه لا سبيل إلى الخروج به من هذه الصورة النمطية إن لم نحسن تحويله إلى قيم كونية، وهذا يحتم على المبدعين توسيع مداركم، والإكثار من القراءة، وليس التسابق على من يسجل أكبر عدد من المسلسلات فقط، أو كتابة أكبر عدد من الصفحات، فالمثقفون هم مرآة مجتمعاتهم.
بطبيعة الحال هناك صعوبات، بكل تأكيد، منها ربما عدم تحديد المناطق الملغمة في هذا التراث، فلهذا المبدعون يتحرجون من تناوله، وأقصد هنا التراث في شقه الديني لا غير، لكن أعتقد أن مع وجود مبدعين أمثال دوستويفسكي، كافكا، زولا، وغيرهم كثير، نكون قادرين على الإبداع بدون أن نثير أي نعرات، وذلك بأن نحول كما قلت هذا التراث إلى قيم كونية تسع الجميع، وذلك بدل توظيفها في حسابات سياسية ضيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.