في مارس 2024، عاد إلينا عالم آراكيس بصحرائه المهولة، وديدانه العملاقه، وتربته الغنية، وشعبه المتدين، في فيلم Dune، الجزء الثاني، ليكمل لنا القصة التي بدأها جزؤه الأول، الذي صدر في 22 أكتوبر 2021، ونرى بأنفسنا كيف سيقود بول أتريدس شعب آراكيس الحر لتحطيم قيود الغزاة والمحتلين، ويعلن "جهاداً" ممتداً حتى أطراف المجرة للتخلص من طغيان الغزاة.
في عام 2021 حقق فيلم Dune بجزئه الأول نجاحاً تاريخياً، فقد استطاع المخرج العبقري دينيس فيلنوف أن ينسج ملحمةً من الخيال العلمي البعيد والقريب منا في نفس الوقت، ودينيس فيلنوف ليس مخرجاً عادياً، فقد قدَّم سابقاً عدّة روائع من أفلام الخيال العلمي كـ Arrival وBlade Runner 2049 كذلك قدَّم أفلاماً أخرى ناجحة كـ Sicario وPrisoners، وبالنسبة له كانت ملحمة Dune هي التحدي الأكبر، فلطالما شكَّلت أعمال الروائي فرانك هربرت تحدّياً لكل صنّاع السينما، وهذا لقدرته التي يعجز أمامها الوصف على خلق عوالم كاملة في المستقبل والفضاء البعيد، وفي الوقت نفسه تعبّر هذه العوالم عنا وعن واقعنا الإنساني وتلمس تاريخنا وحاجتنا الإنسانية.
لذا دعني آخذك في نظرة أعمق حول فيلم Dune، وكيف شكَّلها فرانك هربرت من التاريخ العربي الإسلامي.
ماذا يسرد لنا فيلم Dune؟
يسرد فيلم Dune قصة كوكب آراكيس الصحراوي، كوكب رغم تربته الجافة وبيئته التي تحارب كل أثر للحياة يمتلك أكبر ثروة من البهار في المجرّة، والبهار في عالم Dune هو مورد أساسي يستخدمه البشر للملاحة في الفضاء، بالتالي يعدّ هذا المورد هدفاً لكل الباحثين عن السلطة والغنى، وهكذا أصبح كوكب آراكيس هدفاً للإمبراطورية التي تحكم المجرة بيد حديدية ممثلة في عدّة عائلات أرستقراطية.
يبدأ فيلم Dune مع بول أتريدس، وريث عائلة أتريدس، التي منحها الإمبراطور كوكب آراكيس، منحةً منه بعدما فشلت عائلة هاركونين المنافسة في كبح جماح مقاومة شعب الفريمن على الكوكب.
يدرك والد بول أن الأمر كله فخ من الإمبراطور للتخلص من عائلته، ولكنه يعتمد على إقناع شعب الكوكب بأنه قادم للتحالف معهم، وللأسف لا يسعفه الوقت وتسقط عائلة أتريدس بأكملها أسفل مطرقة عائلة هاركونين وسندان الإمبراطور، ويجد بول نفسه مع أمه وحيدين وسط الصحراء القاتلة والديدان المهولة وشعب ال الفريمن المتدين، حيث عليهم النجاة وأخذ ثأر عائلتهم المغدورة.
بالنسبة لشعب ال الفريمن فهو شعب متدين، يماثل في هويته الثقافية والدينية شعوب الشرق الأوسط، لذا يؤمنون بأن منقذاً قادماً من السماء سيحررهم من القهر والاحتلال يوماً ما، وبول هو هذا المنقذ، ولكن عليه أولاً أن يكون فرداً من هذا الشعب قبل أن يكون منقذه، عليه أن يتدين مثلهم، ويعيش مثلهم، قبل أن يقودهم ضد الطغيان.
التاريخ العربي الإسلامي في فيلم Dune
إن كنت محظوظاً وقرأت رواية Dune أو شاهدت فيلم Dune الجزء الثاني فستدرك جيداً الملامح العربية والإسلامية في هوية كوكب آراكيس وشعبه من الفريمن، فهذا الشعب يماثل القبائل العربية المسلمة في أزيائها وملامحها وهيئتها وصلواتها وحتى كلماتها ومفاهيمها.
فتجد شعب كوكب آراكيس يتحدثون العربية والفارسية، ترتدي نساؤهم الحجاب والنقاب، تلفح وجوههم شمس الصحراء فتُكسبهم سمرة عربية، وينعكس عليهم الظلم والطغيان فتشعر بمعاناتهم الملموسة.
بلا شك كذلك ستلاحظ التكرار لكلمة أساسية في الهوية الإسلامية، وهي كلمة "جهاد"، وقد آثر فرانك هربرت أن يأخذ الكلمة كما هي في روايات Dune، لأنها تعبّر حقاً عما يريد أن يقوله، وما يريد أن يقوله هو "النضال ضد الظلم".
تأتي هذه الفكرة بسبب ولع فرانك هربرت بتاريخ النضال الإسلامي ضد الحملات الصليبية في الشرق، بل ويمتد هذا الولع تجاه ملحمة تاريخية محددة، هي من أوحت له بكتابة رائعته Dune، وهي حرب التحرير الجزائرية، حيث "جاهدت" القبائل العربية والأمازيغية المسلمة ضد الاحتلال الفرنسي.
صدرت رواية Dune عام 1965، أي بعد عدّة سنوات فقط من تحرير الجزائر عام 1962، وكانت الرواية هي تعبير فرانك هربرت عن انبهاره الشخصي بالثقافة الإسلامية ومقاومتها للطغيان، ما دفعه بالطبع لاستقاء ما يستطيع من هذه الثقافة ككلمات "الجهاد" و"المهدي"، وجملاً من القرآن الكريم، والهتاف التاريخي في روايته وفي فيلم Dune الجزء الثاني، حيث يهتف بول أمام شعب الفريمن ويقول "YA HYA CHOUHADA"، والتي يترجمها صنّاع الفيلم إلى "long live the fighters "، ولكنها في الحقيقة تعني "يحيا الشهداء"، وهو الهتاف الذي استقبل به الشعب الجزائري أبطال حرب التحرير بعد طرد الاحتلال الفرنسي في نهاية 130 عاماً من الاحتلال والمقاومة.
كيف يعكس فيلم Dune بجزئيه واقعنا الحالي؟
التاريخ دائرة تتكرر بلا نهاية، وبالضرورة ما يُقتبس منه يستمر في ذاكرته إلى الأبد كانعكاس لواقعه، إن حرب التحرير الجزائرية التي وصفها فرانك هربرت في أعماله ووصفها دينيس فيلنوف في فيلميه لم تغادر واقعنا العربي بعد، فحرب التحرير لا تزال مستمرة، ولكن في سياق مكاني مختلف.
في فيلم Dune تماثل الإمبراطورية وأذرعها قوى الاحتلال الغربي وأذرعه، وكيف تمثّل ثروات عالمنا العربي فريسة أبدية في عقولهم، فيرسلون لنا المحتلين والغزاة، ويبنون قواعدهم وينشرون عسكرهم فوق أراضينا، يحتقرون هويتنا وديننا وكل ما يمثل من نحن، وهذا بالضبط ما نراه في Dune، وكيف تحتقر عائلات الإمبراطورية الحاكمة شعب ال الفريمن وثقافته وهويته، وفي الوقت نفسه يطمعون في ثرواته من البهار.
إن السياق الزماني والمكاني الذي تفهم فيه ما تسرده Dune لا يختلف، فإن كانت حرب تحرير الجزائر، أو مقاومة الإنجليز في مصر، أو احتلال العراق أو جهاد فلسطين، أو أو أو، كله لا يختلف، ففيلم Dune يعبّر عن دائرة الاحتلال والمقاومة والتي نعيش فيها منذ سقوط الخلافة.
فيلم Dune و"الجهاد" الفلسطيني
إن أحد أسباب قوة Dune كعمل عابر للزمن هو سرديته التي ترتبط بشكل وثيق بالوعي العربي وواقعه المأساوي، فحتى وإن كان Dune قد أُقتبس من حرب التحرير الجزائرية، لا يزال يرتبط بكل حرب تحرير تخوضها منطقتنا العربية ضد الاستعمار.
وعلى خطى الإمبراطورية المجرية التي تحتل المجرة، تسير الولايات المتحدة الأمريكية التي ترغب في استنفاذ ثروات عالمنا العربي، الذي يشابه آراكس في البيئة والهوية، لهذا ترسل لنا آخر معاقل الاستعمار في العالم، دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تشبه لحد كبير دولة الهراكنة في Dune، ويتماثل الهراكنة ودولة الاحتلال في الوحشية، واللاآدمية، واحتقار هوية وثقافة أصحاب الأرض، ثم يمتد التماثل إلى شعب ال الفريمن، الشعب الحر الذي عاش طوال عمره في آراكس، والذي حتى هذه اللحظة يرفض الخضوع لقوى الاستعمار الغاشم، ولكن على عكس ال الفريمن شعب غزة لا ينتظر منقذاً من السماء ليقود حرب تحريرهم، فهم المنقذ للأمة المحتلة بأكملها.
لهذا السبب لا تخضع Dune للنسيان، وستبقى ما دامت روح التحرير في وجدان شعوبنا العربية.
يمكن القول كذلك إن النقد الوحيد الذي يمكن توجيهه لفيلمي Dune والمخرج دينيس فيلنوف هو خلو الفيلمين من أي وجه عربي حقيقي، وكذلك استبدال بعض الكلمات العربية بكلمات غربية أقرب للجمهور الغربي، ويمكن فهم سبب هذه القرارات في ضوء البيئة الهوليوودية الحذرة تجاه كل ما يمس ويحتك بالثقافة العربية ودينها الإسلامي، فلا أحد يمكنه التنبوء بردود فعل الجماهير العربية وكذلك الجماهير الغربية تجاه العمل بأكمله وانعكاسه عليهم، بالتالي اختار المخرج دينيس فيلنوف السير في الطريق الآمن.
في النهاية إرث فرانك هربرت وكذلك إرث دينيس فيلنوف سيكونان لوحة من منسوجة بخيوط التاريخ والدين، ومع مرور الزمن قد نرى انعكاس Dune في الواقع لا العكس، ففي النهاية الأدب ليس سوى تعبير عن الإنسان، وتذكر أن Dune ليست مجرد نقد للاستعمار الغربي واحتلاله، بل انعكاس تام لواقعه ونهايته، فالتحرير والنصر قادمان لا محالة، وحتى تأتي هذه اللحظة تذكّر أن الصحراء مليئة بالأسرار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.