قبل سنوات من الآن وقبل ظهور التكنولوجيا وإتاحة وسائلها المتعددة للجميع كنا جميعا نعيش شهر رمضان بجل تفاصيله، نستشعر روحانيته ونستلذ بطعمه ولا نمل من أيامه، قبل أن تظهر معالم الهلال تجد الجميع منا يتأهب لاستقباله بالدعوات والتهجد والتقرب منه الله؛ حيث كان الشهر الذي يسبقه فرصة لتدريب النفس على الطاعة وتدريب الجسم على الاعتدال في الأكل.
مع استقبال الشهر الفضيل، لم تكد تخفى على أحد مظاهر الفرح والبهجة. فنجد الشباب في مقدمة المبادرين لتزيين وتنظيف المساجد والشوارع، استعداداً لاستقبال هذه الأيام المباركة. وكان دخول الشهر الكريم بداية على زيادة تضامن المجتمعي، حيث تجد الجميع، نساءً ورجالاً، متأهبين للاطمئنان على أحوال عائلاتهم وجيرانهم. يسعون لتحديد من هم في أمسّ الحاجة، ليجتمعوا سوياً ويساهم كلٌّ منهم حسب استطاعته في صندوق الصدقات التي يجمعونها تُقسم على المحتاجين، لتخفف عنهم هم البحث عن معيشة، وتمكّنهم من التفرغ للعبادة طوال الشهر. إلى جانب ذلك، يتفانى البعض في خياطة أزياء ترمز إلى الطقوس الدينية، بينما يعكف آخرون على إعداد الوصفات التقليدية المألوفة، التي تعد جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا وهويتنا.
يمثل شهر رمضان فرصة مثالية لاعتماد نظام حياة صحي مدروس، حيث يسارع الكثيرون إلى تطوير خطط خاصة بهم في بداية الشهر، رغبة في الاستفادة من الأجواء الروحانية للشهر، رغم الانشغالات اليومية والمسؤوليات المهنية المتعددة.
ومن المعلوم للجميع أن شهر رمضان، المعروف بـ"سيد الأشهر"، قد خصصه الخالق سبحانه وتعالى لنتذكر من خلاله قيم التراحم والتضامن والتفكير في الآخر، وأيضاً كوسيلة للحفاظ على صحتنا بالاعتدال، تحت شعار "صوموا تصحوا". إلا أن هذه النية الطيبة تواجه تحديات في عصر السوشيال ميديا، حيث يميل العديد نحو تقليد المظاهر الاجتماعية الزائفة. يبدأ هذا بسباق محموم قبل الشهر لشراء البضائع وتحضير الوصفات الغذائية، التي غالباً ما تُخزن بكميات كبيرة دون حاجة فعلية إليها،
مما يعكس تأثر حتى طقوس الاستعداد لشهر رمضان بثقافة الاستهلاك والتسليع. إذ يتزايد الإقبال على الأسواق، التي تشهد ازدحاماً أكبر خلال الشهر، لشراء مواد قد تفوق الحاجة العادية، وكأن الناس يستعدون لسنة من المجاعة.
رمضان في عصر السوشيال ميديا
في الأعوام الأخيرة، شهدت مجتمعاتنا تغيرات عميقة في كيفية استقبال هذا الشهر الكريم، تأثراً بالانتشار الواسع لثقافة الاستهلاك. بات تغيير النمط الغذائي والسلوكيات المرتبطة بالطعام خلال هذا الشهر سمة بارزة، فنجد بدلاً من أن يكون شهر اعتدال في المأكل و كل طرز الحياة.
على العكس من ذلك، نجد تبدل عادات كثير من الناس بشكل جذري، حيث يميلون إلى تغيير برنامجهم الغذائي بالكامل، بدافع من رغبات متجددة تغذيها رؤية المنتجات الغذائية الجذابة. من جهة أخرى، تجد العديد من النساء أنفسهن محاصرات بالمطبخ منذ وقت مبكر من النهار، مشغولات بتحضير تشكيلة واسعة من الأطعمة، كأنهن يجهزن مائدة لاستقبال ضيوف من قبيلة بأكملها. وما أن تنتهي من تزيين هذه المائدة حتى تبادر إلى التقاط الصور لها، سعياً وراء مشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي، في محاولة لتعزيز صورة معينة عن حياة الرفاهية التي تتمتع بها.
هذا التحول في السلوكيات يُسلط الضوء على كيف تحول رمضان في عصر السوشيال ميديا، إذ أثرت ثقافة الاستهلاك على تقاليد ومعاني شهر رمضان الفضيل، محولة إياه من فترة للتأمل والعبادة والتضامن والتراحم إلى موسم يسوده الزخم الاستهلاكي والتنافس الاجتماعي.
بالإضافة لذلك، ربما يدرك بعضنا التحول الملحوظ في كيفية تجربة بعض الشباب لهذا الشهر الفضيل، حيث أصبح يُنظر إليه كفترة للراحة والكسل، بدلاً من استغلاله في العبادة والإنجاز؛ حيث تحول النهار إلى فترات طويلة من النوم والراحة، مما يتناقض مع الهدف الأسمى من الصيام، والذي يتمثل في التحلي بالصبر والتعفف وتقوية الإرادة.
لوحظ أن نمط الحياة خلال رمضان قد تغير لدى فئة من الشباب، حيث تحول النهار إلى فترات طويلة من النوم والراحة، مما يتناقض مع الهدف الأسمى من الصيام والذي يتمثل في التحلي بالصبر والتعفف وتقوية الإرادة. ومع غروب الشمس، يتحول الليل إلى فترة من النشاط الاجتماعي الزاخر، بعيداً عن السكون والخشوع الذي يُفترض أن يغلف الليالي الرمضانية. هذا النشاط لا يقتصر على السهرات والخروجات فحسب، بل تمتد تأثيراته إلى العالم الافتراضي؛ حيث يستغل بعض المؤثرين على منصات السوشيال ميديا هذه الفترة لتسويق أنفسهم، عبر نشر محتوى يظهرون فيه وهم يقومون بأعمال خيرية، مما قد يشوه جوهر هذه الأعمال بجعلها وسيلة للترويج الذاتي أكثر من كونها تعبيراً عن النوايا الصادقة، وأعتقد أن خطورة مثل هذه المظاهر تحول قدسية شهر رمضان في أعين الأجيال الناشئة إلى مجرد فلكلور ثقافي، بعيداً عن كونه فترة للتزود الروحي والأخلاقي.
في زمن تشهد فيه قيمنا وحقوقنا الإنسانية تحولات ملحوظة، يظل الكثير منا، للأسف، متمسكاً بأسلوب حياة يفتقر إلى الوعي، رغم الصدمات التي نواجهها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعرض معاناة أشقائنا. وبينما يقتصر رد فعل البعض على مشاركة هذه المعاناة دون إجراء فعلي، لا يزال هناك من يتمسك بقيمنا الأصيلة وطقوس رمضان النبيلة، ليكونوا على الأقل متضامنين وشاعرين بإخوتهم المستضعفين أينما كانوا، ومستغلين انتظارهم لهذا الشهر بشغف لمضاعفة أعمال الخير وتعزيز القيم في الأجيال الجديدة. هؤلاء هم القدوة الحقيقية، التي تظل ثابتة رغم تقلبات الزمن، مستخدمين وسائل التواصل بحكمة لنشر الإيجابية. المعضلة الحقيقية تكمن ليس في الوسائل ذاتها، بل في كيفية استخدامنا لها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.