لطالما كانت "معاداة السامية" بمثابة الاستراتيجية المرجعية التي أوّلت مظلومية اليهود التاريخية في الغرب، وحماية هذه المظلومية بشكل لاحق بعد الحرب العالمية الثانية، وتحت تأثير تداعيات "الهولوكوست" التي قضت على نحو ستة ملايين يهودي على يد النازيين وحلفائهم، اغتنمت الحركة الصهيونية كل الأوضاع التي أعقبت نهاية الحرب من أجل الحصول على الدعم الغربي فـي مسار تجسيد مطمحهم القومي نحو تأسيس وطن قومي لليهود في فـلسطين، وقد استغلت إسرائيل والتشكيلات والأذرع الموالية لها في الغرب هذه الاستراتيجية لضمان استمرار تدفق الدعم الغربي لها، بما يكفل توطيد وجودها في البداية، قبل إرساء تفوقها النوعي على محيطها العربي فيما بعد.
لقد ارتكزت إسرائيل دوماً على أداة "معاداة السامية" المصطنعة لتأمين الغطاء القانوني والسياسي الموجه لتصفية كل نقد يتم توجيهه لها، أو يشكك في روايتها الصهيونية التي تخص مظلومية اليهود التاريخية، بما فيها المحرقة اليهودية، كما استخدمت إسرائيل مفهوم "معاداة السامية" كوازع للتشديد ضد كل من تسول له نفسه انتقادها في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام والشؤون العلمية، بل تطور الأمر ليصل إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف المجالات تقريباً، الخطاب الذي أفرز حالة من اللبس بين مفهومي "معاداة السامية" و"معاداة الصهيونية" كحركة استعمار عنصرية، تمثل امتداداً طبيعياً للاستعمار الأوروبي التقليدي.
وفي ظل عوامل السيطرة والهيمنة التي يتسم بها اللوبي الصهيوني في الغرب، فإن مفهوم "معاداة السامية" لم يستخدم إلا لحماية إسرائيل من المساءلة، وإخفاء حقيقة الاحتلال، وإنكار السيادة الفلسطينية على أراضيها، تماماً كما يستخدم اليوم لتسويغ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإسكات الأصوات التي تنتقدها داخل المجتمع الدولي.
المفارقة العجيبة أننا لن نجد لمصطلح "السامية" أي وجود قبل نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، فأول ظهور له كان على يد العالم النمساوي "شلوتسر" في مؤلف له عام 1781م، حيث أطلقه على سكان الشرق الأوسط القديم في مؤلف يحمل عنوان "فهرس الأدب التوراتي والشرقي"، قبل أن يروج له المفكر النمساوي اليهودي "موتز شخيندل"، ويتولى المستشرق الألماني "جوهان أيشهورن" تسويقه ويدعي ابتكاره له ويدافع عنه، بعد أن لاقى قبولاً واسعاً في خدعة استشراقية للتلاعب بالعقول، قبل أن يهيمن هذا المصطلح على أفكار أجيال متعاقبة، ليشاع استخدامه، ويظل متداولاً حتى الآن.
وفضلاً عن التلاعب بالمصطلح ومفهومه وتداعياته، الذي نصّب اليهود من خلاله أنفسهم أوصياء على الجنس السامي رغم أنهم لا يمثلون إلا فئة قليلة منه، طبقاً لمؤلفه، فإننا بصدد مغالطة تاريخية أخرى تتناقض مع حقائق الجغرافيا، حيث إن المظلومية اليهودية لم تكن في كنف المجتمعات الشرقية حيث تتواجد إسرائيل اليوم، بل كانت في الغرب، في الوقت الذي تمتع خلاله اليهود بكافة الحقوق في ظل كافة مشاريع الخلافة الإسلامية المتعاقبة بالمنطقة العربية.
وبالرغم من كون الحرب الإسرائيلية الآنية على قطاع غزة تمثل مرحلة متطورة من الاضطهاد العنصري الاستيطاني الذي تجاوز السبعة عقود، حيث مثلت كارثة إنسانية غير مسبوقة، إلا أن الآلة الصهيونية قد استغلت هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م، الذي قادته حركة حماس بمشاركة فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لمحاولة إعادة إنتاج حالة الخلط بين مفهومي "معاداة السامية" و"معاداة الصهيونية" مجدداً، بالمنظور الذي يهدف إلى تكميم أفواه ناقدي ورافضي الوحشية الإسرائيلية، وجرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، التي أدت إلى استشهاد أكثر من 30 ألف شخص، وإصابة أكثر من 72 ألف شخص، غالبيتهم من الأطفال والنساء، حتى الآن. ساهم في ذلك تأثيرات اللوبي الصهيوني المتزايدة داخل الإدارة الأمريكية، حيث أصدر مجلس النواب الأمريكي قراراً ينص على أن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية"، ما دعا أحد النواب الديمقراطيين إلى أن يقول خلال كلمته: "إن أولئك الذين يحبون إسرائيل بشدة، ولكنهم ينتقدون بعض مناهجها السياسية يمكن اعتبارهم بنص القرار معادين للسامية"!
لم ينصت الأمريكان للجنة اليهودية الأمريكية التي تقول إن "تعريف معاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، والذي تستخدمه الحكومات في جميع أنحاء العالم، يشير بوضوح إلى أن الانتقاد المشروع لإسرائيل ليس معاداة للسامية"، وقد برز ذلك في الضغوط السياسية والاقتصادية على مالك منصة "X" إيلون ماسك، بسبب رفضه التعويل على الرواية الإسرائيلية، والاستجابة لخنق المحتوى العربي في منصته العالمية، تماماً كما أقدم مارك زوكربيرغ، مالك منصتي "Facebook" و"Instagram"، بالإضافة إلى الهجوم على النائبة بالكونجرس "رشيدة طليب"، بسبب مواقفها من آلة الحرب الإسرائيلية، ودفاعها عن الحقوق الفلسطينية، والهجوم الإسرائيلي على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد استخدامه لصلاحياته في إجبار مجلس الأمن الدولي على مناقشة قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، والموقف الإسرائيلي المناهض لدولة جنوب أفريقيا بعد دعوتها القضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وكذلك العديد من الشخصيات الاعتبارية والطبيعية، التي وجدت نفسها تواجه تهمة "معاداة السامية" بسبب انتقادها لإسرائيل، ورفضها للرواية الصهيونية التي تسعى لتبرير الجرائم البشعة بحق الشعب الفلسطيني.
لقد تماهت المؤسسات الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية ودوائر صنع القرار في أمريكا والغرب مع تلك المغالطة الكبرى، ليتحول مفهوما "معاداة السامية" و"معاداة الصهيونية" إلى حالة من التطابق، بما يعني المساواة في التداعيات القانونية والسياسية للمفهومين، ويتضح ذلك جلياً في تصاعد تسجيل حالات "معاداة السامية" بمعظم الدول الأوروبية، حيث انتفضت الشعوب تضامناً مع حقوق الشعب الفلسطيني، ورفضاً لاستمرار آلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ليُسهم هذا الخلط الواضح في تبرير الجرائم الإسرائيلية، وتجريم انتقاد السياسة الوحشية الإسرائيلية.
في إطار ذلك تقول رابطة مكافحة التشهير اليهودية: "إن إسرائيل دولة مثل أي دولة أخرى، لديها بعض السياسات الجيدة والبعض الآخر ليس جيداً". وبالرغم من أن الرابطة تدعم إسرائيل، وتعمل على مكافحة معاداة السامية، لكنها تؤكد أن "غالبية الانتقادات الموجهة للسياسة الإسرائيلية لم تتجاوز حدود الخطاب المعقول، ومن المؤكد أنها ليست معاداة للسامية".
إن تنامي الشعور اليهودي المعادي للصهيونية، والذي تصاعد مؤخراً لانتقاد السياسة العنصرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، يعيد إلى الأذهان الإشكالية اليهودية القديمة، التي تتناقض فيما بينها حول نصوص التوراة المفسرة لوجود إسرائيل، تلك الإشكالية التي ترتبط بمدى التوافق بين العقيدة الدينية لليهود كأصحاب رسالة سماوية، والصهيونية كعقيدة سياسية عنصرية، بما يعيد المشروع الإسرائيلي ككل إلى مسارات الجدل، في الوقت الذي يعتقد خلاله اللوبي الصهيوني بنجاحه في عزل تلك الأصوات عن دوائر صنع القرار الأمريكي والغربي.
وعلى الرغم من محاولة توطيد هذا الخلط من أجل القضاء على فكرة "معاداة الصهيونية"، يظل الثابت جوهرياً بين "معاداة السامية" بمعناها الخاص التي تعني التحيز العنصري ضد اليهود، و"معاداة الصهيونية" التي تعني معاداة المشروع الصهيوني الاستيطاني العنصري وممارساته الإجرامية، وبالتبعية فإن الفارق شاسع للغاية بين كون المرء يهودياً وكونه صهيونياً، وبما يعني أن أي محاولة لترسيخ هذا الخلط بين حدود الاختلافات البينة للمفهومين، والسعي الحثيث لتوسيع نطاق التوافق بينهما، سوف يصب في خانة المساعي الإسرائيلية الطامحة لتحقيق مكاسب سياسية على مستوى دوائر صنع القرار والرأي العام الغربي ومن ثم الرأي العام الدولي، بما يسمح بتجنيب القيادات الإسرائيلية أي مسؤولية سياسية أو أخلاقية أمام المجتمع الدولي، بالإضافة إلى تجنب تداعيات القانون الدولي على إسرائيل.
لقد أثرت الحرب الإسرائيلية الآنية على قطاع غزة بشكل أو بآخر في الوعي والرأي العام الدولي، وتآكلت معها إلي حد كبير المظلومية التاريخية الإسرائيلية، في ظل الفعاليات الشعبية المتعددة بمختلف بلدان العالم، وخاصة بأوروبا وأمريكا، وبالرغم من أنه من المبكر الحديث عن حجم تداعيات الحرب في حين أنها لم تضع أوزارها بعد، إلا أن الثابت حتى الآن أن أكبر خسائر إسرائيل في تلك الحرب هي التنافر المعتبر في تبني الرواية الإسرائيلية التي طالما روجت لها دبلوماسيتها، باعتبارها منظومة للقيم الغربية الديمقراطية في بيئة مناقضة، ومع هذا الأثر الكبير تبنت إسرائيل مجدداً خلط مفهومي "معاداة السامية" و"معاداة الصهيونية" في محاولة لترسيخ مظلوميتها مجدداً.
أخيراً، فإن الخلط الفج والمتعمد بين المفهومين يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك مدى ضآلة رغبة المجتمع الدولي، في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فالدعوة لتحرير فلسطين ليست معاداة للسامية، وتحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن جرائمها بحق الفلسطينيين والشعوب العربية ليست معاداة للسامية، بل إن حرمان الفلسطينيين من حق الدفاع عن أنفسهم حتى عبر اللجوء للأمم المتحدة وباقي مؤسسات المجتمع الدولي الأخرى، واتهام هذه المؤسسات بالتحيز ومعاداة السامية لمجرد محاولتهم القيام بالوظيفة التي تم إنشاؤها من أجلها هو عنصرية واضحة ممن يسوقون لتلك المفاهيم ضد الفلسطينيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.