الصيام والحروب والأمراض صارت خلطة تعرفها شعوبنا الإسلامية المعاصرة منذ عقود، ونتجرع آلامها في كل حين عبر السنين، وما زالت أمتنا تقرأ تاريخها بعين وتبكي بعين؛ لفداحة الخسارة ومرارة المصيبة، خاصة بتواطؤ علني مفضوح لبعض الأمراء من حكامنا أجيالاً تلو الأجيال، خسة ونذالة.
للتاريخ محطات مع جروحنا الدامية
وللتذكير من باب ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، هذه محطات بعض جروحنا الدامية التي ما زالت تنزف وتنزف بغزارة كلما أمطنا عنها الغبار، ففي العقود الأخيرة فقط عام 1967 اجتاحت إسرائيل 5 دول عربية، ودمرت جيوش 6 دول في 6 أيام، إضافة للأسرى بعشرات الآلاف، كما دفنت إسرائيل في الصحراء آلاف الجنود المصريين أحياء واحتلت الضفة والقدس وغزة والجولان وشبه جزيرة سيناء. وفي عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، أيامها ارتكبت الميليشيات الطائفية مجازر صبرا وشاتيلا الرهيبة وأرغمت اللاجئين الفلسطينيين للرحيل ثانية لتونس. وفي عام 2001، اجتاحت أمريكا على رأس تحالف دولي أفغانستان بعد هجوم 11 سبتمبر اللعين، المنسوب كذباً وزوراً وبهتاناً للمسلمين، وفي عام 2003، شنَّت أمريكا المتوحشة حربًا على العراق البلد القوي بحجة كاذبة وهي وجود أسلحة دمار شامل، والأمثلة النازفة والصاعقة عديدة في كل شبر من بلادنا العربية والإسلامية، لو واصلنا سردها لأصبنا القارئ الكريم بالغثيان والجنون، وبالتالي نكتفي فقط بذكر بعض الأسماء للتاريخ لكي لا ننسى، هذه جروح سورية الشهباء وذلك شقاء اليمن السعيد وتشتت الصومال الوليد وشروخ ليبيا بترول وحديد، تنزف دماً ودموعاً، وشعوبها مشردة في الفيافي، بل في كل حدب وصوب، وحدِّث عن مقذوفات البحر ولا حرج!
غزة العزة تستفيق من ركامنا
رغم كل ذلك، ها هي غزة العزة تستفيق من ركامنا بهجوم 7 أكتوبر، لرد جزء من الاعتبار لأمة طال بالغدر ليلها، قام به شباب متوضئون في عمر الزهور بصدور عارية وأسلحة ألعاب يدوية بسيطة، لتكتسح مستوطنات الجيش الذي لا يُقهر وقتلت أكثر من 1400 إسرائيلي وأسرت أكثر من 250. لترد عليها بجنون وطيش إسرائيل بحرب على غزة وضواحيها، بدعم دولي أمريكي أوروبي ياباني كندي هندي، وتواطؤ عربي فاضح وجسر جوي وبري وبحري من السلاح والعتاد. استهدفت إسرائيل المغتصبة المدنيين العزل فقط، فقتلت حتى اللحظة أكثر من 30 ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال، وما زالت الحرب مستمرة ولم تستطع إسرائيل تقديم إنجاز عسكري واحد، وهي ماضية في مجازرها دون اكتراث بعويل بعض الأبواق الغربية التي تكيل لنا بمكيالين.
اليوم غزة الصغيرة ذات المساحة الضيقة 360 كم مربعاً محاصرة، دون كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا وقود ولا اتصالات. وهي صامدة صمود الجبال، ورجالها جبابرة في مواجهة العدو، وشعبها متمسك بأرضه ومقاومته ويرفض التهجير، بل ويستعد للصيام والقيام وإتمام المهام، يا له من شعب عظيم!
في غمرة الأجواء الحزينة والدامية، رمضان وجاليتنا في الغرب
في غمرة الأجواء الحزينة والدامية هناك، يظلنا موسم عظيم ويحل بساحتنا شهر رمضان الكريم، بأيامه ولياليه الرّبانية المُباركة رحمةً من الله بنا وتكريما وقُربة لنا إليه وتشريفاً.. شهر القرآن لعام 1445 هجرية. فأين المُشمرون السابقون؟! أين الصالحون المُتقون؟! هذا موسم التوبة والاستغفار هذا أوان الرجوع والانكسار، هذا أوان الإقبال والبِدَار.
أما هنا في بلاد الغرب، فعدد المسلمين في أوروبا يرتفع ويزداد عقداً بعد الآخر، بسبب التكاثر أو التوسع الديموغرافي، وبسبب الهجرات المتواصلة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي نحو القارة العجوز، هرباً من الحروب، وبحثاً عن حياة كريمة تحترم الإنسان وحقوقه، أو بقصد التمدرس في جامعاتها، لكن الإحصائيات الرسمية تقول إن عدد الصائمين منهم في الشهر الفضيل يعد على الأصابع، منهم من يخاف أن يعلن على الملأ أنه صائم ومنهم من يخفي صيامه، ومنهم من يظهر أن الأمر لا يعنيه البتة، ولا يصوم عِلماً أنه مسلم أباً عن جد.
ومنذ عام 2011 مع بدء ثورات ما سُمي يومها بـ "الربيع العربي"، ومن ثم الحروب الكثيرة التي تلته، سواء في سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وإريتريا، أو في أنحاء شمال أفريقيا، واضطهاد مسلمي الروهينغا بميانمار والإيغور في الصين، ثم انسحاب الأمريكان من أفغانستان، ليرتفع عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين إلى أرقام عالية جداً، وقفت أمامها أوروبا في حيرة كبيرة، ووقفت معها أيضاً مؤسساتنا الإسلامية في حيرة كبرى مماثلة، "خاصة أمام هذه الأفواج الجديدة من اللاجئين التي همها الدنيا، ولا يعرفون للمسجد سبيلاً إلا لأخذ الإفطار منه مجاناً والتهامه قبل أذان المغرب في الحدائق والمتنزهات المجاورة "، على تعبير بعض المراقبين.
"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
وهنا علينا كدعاة ونخبة داعية لله بالتي هي أقوم، بل يجب أن نعيد حساباتنا بقراءة متأنية لخطوات من سبقونا على درب التضحية والفداء، وحري بنا أن نتوقف عند ما كتبه العلامة أبو الحسن الندوي، في منتصف أربعينيات القرن الماضي، كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" فخلص إلى "أن الحضارة الغربية تحركت بعيدًا عن منظومة القيم الأساسية للحياة البشرية، وأنها اصطنعت قيماً لها، تقرُّ فيها بعض القيم المضادة للقيم الأساسية الإنسانية". فيقول: "وأصبح العقل الأوروبي محاميًا عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير". "وأن لفقدان كثير من المسلمين لثقتهم بدينهم وقيمهم وأنفسهم في سيرهم خلف الغربيين أثراً سلبياً في نظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين، إذ اتخذ العالم من فشل المسلمين دليلاً قاطعًا على عدم صلاح الإسلام لقيادة البشرية".
"وأن البشرية في حاجة إلي قيادة جديدة بديلاً عن سيطرة اليد الأوروبية الغربية على دفة القيادة ولن يتم ذلك إلا بالعودة إلى الإسلام ونهضة المسلمين الشاملة وإيجاد الترابط المتين بين العلم والدين". "وأن هذا التحول هو الذي سيغير التاريخ وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي تنتظره".
وأدرك ذلك الشهيد المفكر "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق" عندما قال: "إن البشرية تقف على حافة الهاوية؛ بسبب إفلاسها في عالم القيم. فقيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال لا لأن الحضارة الغربية أفلست مادياً أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والفكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره؛ لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة".
وكما قال فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني: "إن الدين هو قوام الأمم وبه فلاحها وفيه سعادتها وهو السبب المفرد لسعادة الإنسان وعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته".. "فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت. فإذا قاموا وجعلوا أصول دينهم نصب أعينهم فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهى الكمال الإنساني".
ما العمل والهجمة على الإسلام لا تزال مستعرة؟
وبعد مرور 76 عامًا على ما طرحه الندوي في كتابه: "نجد أن المسار الإنساني ما زال يحتاج إلى عطاء الإسلام لا محالة، وما زالت الهجمة على الإسلام مستعرة شديدة تريد استلاب المنظومة الحضارية للأمة بربطها بمراكز الهيمنة الغربية عبر طغاة الداخل".
"وأن الأمة تعيش حالة مخاض مؤلمة تنتقل بها من مرحلة كانت فيها مستضعفة مسلوبة الإرادة مختطفة من خصومها إلى مرحلة يقظة واستدعاء واستجماع لقواها الذاتية تنتزع بها زمام أمرها وترد قرارها إلى شعوبها وتعمل على تخليق حالة إحياء جديدة نستطيع أن نبني عليها صعودنا الحضاري الذي ينطلق من روح الأمة وهويتها لتصبح الأمة مؤهلة للريادة الحضارية والتي لا يستقيم لها وجود دون السعي لتحقيقها".
فهي لحظة متغيرة ومضطربة قلقة، لا نحن في مرحلة الاستضعاف التي كان من أهم معالمها هذا الاختراق الفكري غير المسبوق في تاريخ الحضارة الإسلامية، والذي يسمح لطغاة الأمة في الداخل وخصومها في الخارج بإنفاذ مخططاتهم لاستعبادها وتقسيمها وتكريس ضعفها وتبعيتها ومهانتها، ولا نحن في مرحلة منعة وقوة نمتلك فيها إمكانات فرض إرادة الأمة وتحقيق مصالحها والتحرك نحو أداء أدوارها.
والسؤال المطروح الآن: ماذا قدَّم المسلمون ونخبهم كي يجنبوا الأمة هذا المصير البائس؟ وما هو دورهم نحو تقديم النموذج الإسلامي الحضاري بعد أن تم تغييبه عن الواقع؟
هذا هو الدرس بداية ونهاية، بل وذروة سنام قضيتنا اليوم وكل يوم في فلسطين، أرض المعراج، وباقي بلاد المسلمين.
نحن ورمضان وفلسطين أرض المعراج
وفي ظلّ أحداث أرض المعراج وحلول شهر رمضان، وفي هذه الظروف العصيبة ومُخلفاتها التي تشهدها فلسطين الجريحة، يستدعي منا الوقوف جنباً لجنب للتصدي للعدوان الغاشم على أهلها وأرضها وأبنائها. وما يحدث في غزة اليوم من تسديد وتوفيق المُجاهدين هو سند سماوي رباني يتنزل من السماء إلى أرض المعراج. وأن الباب إلى رب السماء مفتوح دائماً، الهدف الأسمى منه، وهو سند الله للضّعفاء والمضطهدين وهو على نصرهم لقدير، دون ريب ولا شك. ومما يثلج صدورنا، أن جسدت المُقاومة رسالة عز وفخر للأمة الاسلامية جمعاء لردع لكل عدوان مهما كانت قوته وجبروته.. إنهم "الفتية الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى"، هم الذين بعثوا فيها الأمل في التغيير الجذري وأنها قادرة على التحرر وتحرير المُقدسات وقادرة على ردع كل عدوان وطغيان وجبروت، فأهل فلسطين أحيوا أنفاس رجال ونساء الأمة مغلوبة، وبات تحرير الأرض المُباركة على الطاولة وفي متناول كل مخلص يراه رأي العين. هَلا تدبرنا منهم رسالة العز هذه التي يزفها أهل فلسطين للأمة الإسلامية بدمائهم وعرقهم وإخلاص شبابهم؟! فلسطين هذه القطعة القدسية التي يُدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدمنا من التضحيات؟ هل أدينا أقل الواجبات؟! أو- العياذ بالله- نقول بكل أسف: ماذا حققنا من التنازلات؟
وهذا شاعر الثورة والثوار في الجزائر، المجاهد المفكر مفدي زكريا، يتغنى بالثورة ومجاهدينا، حري بأشبال فلسطين أن ينهلوا من معينه العذب، حيث أنشد، رحمه الله يقول (استبدلنا كلمة الجزائر بفلسطين ونوفمبر بأكتوبر):
إن (فلسطينَ) قطعةٌ قدسيّةٌ *** في الكون.. لحّنها الرصاصُ ووقّعا!
وقصيدةٌ أزليّة، أبياتُها *** حمراءُ.. كان لها (أكتوبرُ) مطلعا!
نَظمتْ قوافيها الجماجمُ في الوغى *** وسقى النجيعُ رويَّها.. فتدفَّعا
غنَّى بها حرُّ الضّمير، فأيقظتْ *** شعباً إلى التحرير شمّر مُسرِعا
سمعَ الأصمُّ دويَّها، فعنا لها *** ورأى بها الأعمى الطريقَ الأنصعا
الصوم كفاح وجهاد ميدانه حياة روحانية ربانية صافية، وقطوفها دانية
ذلك هو معنى الجهاد الحقيقي في الميدان، والصوم اليوم ككل يوم كفاح وجهاد مستمر يكون المسلم فيه في حياة روحانية ربانية صافية قائماً لربه، قانتًا لمولاه معترفاً بنعمة ربه عليه، خالصًا لله؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي تكفل بإعطاء الأمر والجزاء لأنها حالة منفردة بين الإنسان وربه لا يشاركه فيها مخلوق وهي أيضًا خالية من الرياء والمباهاة حينما يختلي الإنسان بينه وبين نفسه فيزداد تمسكًا وصبرًا وثباتًا لكي يقضي يومه في صلاة وقراءة وجهاد في الحياة، وليله في العبادة الخالصة لله. وهو في كل ذلك يردد بينه وبين نفسه: (اللهم لك صمت) كما جاء في الحديث القدسي: (يترك طعامه وشرابه من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)، فما بالك بالمجاهد الذي باع لله نفسه، جَعَلَنا اللهُ وإيَّاكُم مِن عُتَقائِهِ مِن النَّار وَأَعانَنا جَمِيعاً عَلى الصِّيام والقِيَّام وتِلاوَة القُرآنِ وبلَّغَنا وَإيَّاكم لَيْلة َالقَدْر وَرَزَقنا قِيَّامَها.. اللهم آمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.