بالدين واللغة.. كيف يمكن تدمير الهوية؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/09 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/09 الساعة 14:14 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/shutterstock

إن أفضل ما يمكن أن أستهلّ به مقالتي فكرة طرحها أمين معلوف، وهي أنه لا يؤمن بالحلول التبسيطية كما لا يؤمن بالهويات التبسيطية. وأنا مع إيمانه هذا بشدة، وعلى ضوء هذا الإيمان سنناقش موضوع الهوية من زاوية مختلفة، ومنه نطرح السؤال التالي: ما هي الهوية؟

قد يُجيبنا البعض من باب البساطة ويقول الهوية هي الشخصية، ما هو مدوّن من معلومات ببطاقة التعريف الوطنية، لكننا نردّ ونقول إن بطاقة التعريف قد نجد فيها ما يعني الهوية، لكنها ليست الهوية حتماً، فالهوية ليست بتلك البساطة المتناولة في شتّى وسائلِ التناول ومحطات الحديث، والإجابة عن سؤال الهوية أعقد ما يكون لما يحتاج من جهد فلسفي أكثر منه شيء آخر. 

 ومن تعقّد سؤال الهوية أنه سؤال متعدٍّ للمحسوسات، فسؤال من أنت؟ الإجابة عنه أوسع وأعقد مما قد يخيل لأهل التبسيط الهويّاتي، كما أن محاولة الإجابة عنه قد ترمي بنا إلى حدود أجوبة مزدوجة، أو ستبقى إجابته معلقة إلى بعد حين.

 يكثر الحديث عن الهوية وطرْح سؤالها واسع بين عامة الناس، وبين جمهور الهوية ودعاة المحافظة عليها، لكن السؤال: هل نقف على بينة من أمرها؟

هل كل من يدعي المحافظة على الهوية هو بالضرورة محافظ عليها؟ كيف تُضرب الهوية؟ مَن يقف وراء حرب الهوية؟ سنجيب عن هذه الأسئلة، لكن بداية سنُعرف الهوية. 

الهوية من وجهة نظرنا هي الأصل، والأصل كثير، ومنه الدين، اللغة، الإنسانية، النسب، الوطن.. إلخ وهي نوعان هوية فطرية يولد بها الإنسان، ويندرج تحت بندها: الإنسانية، النوع الجنسي، الشكل، الملامح، اللون، الغرائز، التفكير، العاطفة وغير ذلك، هذه الأشياء تمثل هوية لأي شخص، هوية مستقلة لا يد لأحد فيها، ومن خلالها يمكن أن نميز بين فلان وعلان ثم تأتي الهوية المكتسبة والتي تعني أن الإنسان يكتسبها، ويكتسب مفاهيمها بعد أن يتجاوز مرحلة الهوية الفطرية كالميول والاهتمام، والتفاعل، ومفهوم الأسرة، والمجتمع، واللغة، والدين، والقيم، والعادات والتقاليد، والزي، والثقافة، والأخلاق، والمكانة الاجتماعية، والجغرافيا، والأمة، والجنسية، هذه وغيرها علامات الهوية المكتسبة، من خلالها يمكن أن نمايز بين شخص وآخر، جماعة وأخرى، أمة وثانية، وطن وآخر. 

إذن هذه علامات الهوية والتي يُعرف الإنسان نفسه بها أو يتعرف الآخر عليه بواسطتها، وفصلنا من حيث معنى الأصل أن علامات الهوية أصل، فالدين أصل، واللغة، والجغرافيا، وفي وقتنا هذا يكثر الحديث عن الهوية كما أن حراس الهوية كثر بقدر كثرة الهويات، السؤال الذي يطرح نفسه مع أصالة الهويات: كيف تتأذى الهوية؟ أو مَن المسؤول عن أذاها؟ الهوية كما تبيّن ليست صورة واحدة، إنما هي صور متعددة؛ كونك إنساناً ذكراً أو أنثى، لك لغة، ودين، وجغرافيا، وثقافة، وأسرة، ومجتمع، وقبيلة، فهذا يجعل منك متنوع الهوية، عديد الهويات كما أسلفنا، منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، وجميعاً أصلية، هويات أصلية من حيث المشاركة، الجميع يتشارك هوية الإنسانية، أما ما عداها من هويات فيختلف الأمر، فهناك من تشارك معهم هوية واحدة أو هويتان أو ثلاث، أو جميع الهويات. 

على سبيل المثال لا الحصر سنأخذ صوراً من صور أذى الهوية، ومن خلالها نبين كيف يمكن أن تُضرب الهوية، ومن يُمكن أن يُسهم في ضرب أيّة هوية نقاشنا سيدور عمّا هو متناول بكثرة كالدين واللغة.

الدين أصل من أصول الهوية، ونادراً ما تجد إنساناً بعيداً عن المكون الأساسي وهو الدين، سنتجاوز الحديث عمّا يُمكن أن يسبّبه غير المتدين لهذا المكون، وصراع المتدينين، لن نتجاوز نموذجاً واحداً بالضبط للإسلام، وكيف يمكن للمسلم وهو يدعي أنه يُحافظ على دينه أن يسيء لدينه، وكيف لمن يقول إن هذا الدين أساس الوحدة قد يكون هو أول من يُخرب هذه الوحدة، كيف تُضرب الهويّة من هاهنا؟

أنزل الله الإسلام لكافة الناس، كلّف نبيّه الأكرم بإيصال رسالته، وصلت الرسالة على أكمل ما يكون، وأصبحَ المسلمون كالجسد الواحد في جميع شؤون حياتهم، لكن بعد مدة أضحى المسلمون شيّعاً ومذاهب شتى، تفرقوا لجماعات كل جماعة ترفع راية وحدها، وياليت المسألة توقفت إزاء هذا الحد؛ بل غدت كل جماعة تدَّعي أنها صاحبة الحق المطلق وغيرها باطل يسعى، ما ترتّب عنه ارتفعت الأصوات واستلت السيوف، ودقت طبول الصراع بين أبناء الجلدة الواحدة، وهكذا ضُرب الأصل من أبناء الأصل.
الأزمة داخلية بامتياز منذ نشأة النص الثانوي، منذ اعتماد الصورة غير الأصلية للدين بالتأويل، بدأت الهوية الدينية تضرب، وممن من أبناء الهويّة، واستمر الضرب بأشكال متفاوتة إلى لحظتنا هذه. 

المتدين الذي يعادي أبناء دينه انطلاقاً من نصوص تأويلية منبثقة من نصّ أصلي ترك الأمة على المحجة البيضاء هو أول من يَضرب الهوية في مقتل، الذي يتشدق بقدرة وحدة الدين للأوطان بابتعاده عن الأصل، يغدو أول من يحارب الهوية، هذا شكل بسيط من أشكال ضرب الهوية، لأن أشكالها كثيرة لا يمكن أن تُحصَى في سطور معدودة.

اللغة

بالإضافة إلى كون اللغة العربية أصل ضمن مكونات الهوية فهي محور رئيس من محاور التآزر والتماسك المجتمعي، ثم دائماً ما نسمع مصطلحات من قبيل الهجمة على اللغة، اللغة في خطر، لغة الضاد تئن، دسائس المستعمر للغة مع أن المستعمر ولى الدبر منذ زمن طويل، لكن لو سألنا بشكل جادٍّ كيف يمكن أن يئن أصل؟ الأصل لا يئن. من وراء الإساءة للغة؟ هل يمكن أن تصارع لغتك وأنت لا تشعر؟

اللغة العربية أصل والأصل لا يمكن أن يتأذى، لكن المتحدث باللغة العربية نفسه يتفاعل ويُقاد ضمن سياقات وظروف وشؤون متداخلة قد تجعله يسيء لهذا الأصل، سواء بقصد أم من غير قصد، من ذلك مثلاً أن يطوّر لهجة عن اللغة، منبثقة من العربية تتقاطع معها كثيراً تشبهها كثيراً، لكنها تحمل كثيراً من المفردات التي لا علاقة لها باللغة، وما هذه في حقيقة الأمر إلا أولى خطوات الإساءة للأصل، أو كما يسميه البعض حرب الهوية، فالحرب على اللغة تبدأ من لحظة ولادة اللهجة ولا تعرف محطة توقف، تستطرد هذه اللهجة في رحلة التطور إلى أن يصبح بينها وبين الأصل "اللغة الأم" مسافات ضوئية، ومن هنا تُحارب الهوية، فاللهجات ما هي إلا ردّة عن اللغة الأم، وشكل من أشكال التخلي عن الهوية، بداية الصراع مع الهوية؛ أي إن الصراع مع الهوية ينطلق من الداخل، من بضاعتنا الخاصة، ثم بعد ذلك تأتي الضربات من خارج المحيط، وضمن هذا السياق نوضح نقطة معينة وهي أن القاعدة ذاتها تنطبق على أي شكل من أشكال الهوية، فلنفترض جدلاً أن أمة معينة قررت أن لهجة ما من مكونات الهوية الأساسية، وقام بعد ذلك الناطقون باللهجة بالتخلي عن هذه اللهجة أو تطويرها بشكل من الأشكال أو تشويهها، فهنا يكون ضرب هذه الهوية بيد أهلها، وكثير ممن يدّعون الحفاظ على الهوية قد يكونون أول من يخرب بيت الهوية.

أين يكمن الحل؟

يكمن الحل في إدارة الهوية بمعنى أن يُوقن الجميع أن الأصل لا يشتت، لا يُشعل الحروب بتاتاً، إنما ذلك من اختصاص الفروع، ما هو حادث من صراع ناتج من المُعدّل لا من المنبع، إننا بأرض تبكي الإصلاح، ثانية، علينا إدراك أن ما نحن عليه الآن مجرد صور لما هو أفضل منه الأصل، أن نستشعر جميعاً الانتماء لذلك الأصل، ولا يغيب أو يُغيب عن بالنا، وأن هذا المستحدث واقع معاش، وبالتالي من الحلول وعي ذلك، والاختلاف الطارئ، إيقاظ الشعور الجمعي بالانتماء لهذه الصور الجديدة، وإحداث روح جماعية تجاه هذا المعطى الحديث، روح تنبض بالتفاعل والتواصل والتعايش، روح تذكي الوسع والمرونة لتقبل المختلف عليه، وأن ننظر إلى ما قدمت أفهامنا المتنوعة بالأصالة، أن نحس جميعاً إزاء هذا الاستنساخ بعمق بغض النظر عن التباين والكثير من الأشياء، وحتى تقبل هذه الأشياء، أن نحفر بوسائل العقل في هذه الأرض الجديدة لننبش عن مساحات تسمح بأن يقف عليها الجميع بلا استثناء؛ لنستدرك الأمر للرسم من جديد يداً بيدٍ، حتّى نُشكل لوحة المجتمع الفنية، وهكذا نكون قد خطونا خطوة فيما يعني إدارة الهوية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زيني محمد لامين
مدرس جزائري، ومتخصص في علم الاجتماع
مدرس جزائري، ومتخصص في علم الاجتماع
تحميل المزيد