في عصر أصبحت فيه التحالفات الجيوسياسية وآليات الدعم الدولية أكثر أهمية من أي وقت مضى، يكشف الوضع في أوكرانيا عن واقع مرير ومُحبط تعيشه القيادات السياسية والعسكرية. ففي خضم الصراع المستمر مع روسيا، يقف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي كشخصية تدرك بعمق التراجع المخيف في الدعم الغربي. يتعمق هذا المقال في المشهد المروع للدعم المتعثر، ويسلط الضوء على التجاور القاتم للخطاب السياسي على خلفية صارخة للأزمات العسكرية والإنسانية.
وبينما نقوم بتفكيك وتحليل هذا المشهد السياسي المعقد يصبح من الواضح أن المعركة من أجل أوكرانيا ليست مجرد صراع إقليمي ولكنها انعكاس لتحديات لانقسام غربي أوسع نطاقاً، واختبار سلامة لالتزاماتهم.
إن اعتراف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الحاد بتلاشي الدعم الغربي وسط المواجهة مع روسيا يكشف عن واقع كئيب وخطير تعيشه القوات الأوكرانية. فعلى الرغم من التأكيدات الشفهية التي يقدمها الغرب، فإن تحركاته تشير إلى التخلي التدريجي عن أوكرانيا، وتركها لتواجه وحدها خصماً روسياً عنيداً. وبعد مرور أكثر من عامين على هذه الحرب المدمرة، فإن حجاب السرية الذي يحيط بالخسائر العسكرية التي تكبدتها أوكرانيا، وعلى وجه التحديد العدد المفزع من القتلى والجرحى، لم يُكشف بعد.
إن إخفاء هذه الأرقام، التي قد تكون فلكية، يسلط الضوء على الوضع المزري الذي تفاقم بسبب تضاؤل المساعدات العسكرية الغربية وسط الهجوم الإسرائيلي المكثف على قطاع غزة.
إن إعادة توجيه موارد الولايات المتحدة وأوروبا لدعم منطقة صراع أخرى (مثل تمويل الحرب الإسرائيلية على غزة) يسلط الضوء على تحديد الأولويات من المنظور الغربي الذي يهمش نداء أوكرانيا اليائس للحصول على الدعم.
فعلى سبيل المثال، فإن القدر غير المتناسب من رأس المال السياسي والمنتظم، الذي وضعه بايدن في مقترح الإنفاق العسكري لمساندة إسرائيل مقارنةً بإجراءاته المحلية لمكافحة الفقر، يميز الانفصال بين فكرة واشنطن عن "الأمن القومي" وما يعنيه الأمن فعلياً لأفراد وعائلات الطبقة العاملة في الداخل الأمريكي من جهة وفقدان الأمل بتمويل كافٍ للحرب الأوكرانية من جهة أخرى.
وبينما يسعى بايدن لتحقيق أكبر ميزانية عسكرية لدعم إسرائيل، يقول 63% من البالغين الأمريكيين إن ارتفاع الأسعار مصدر للمصاعب؛ كما أفاد 41% منهم بوجود صعوبة في دفع تكاليف الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والسكن ورعاية الأطفال والمرافق، وقال 23% إنهم لم يتمكنوا من دفع فاتورة الطاقة بالكامل في السنة الماضية.
إن مقاييس الضائقة المالية هذه كلها أعلى مما كانت عليه في المتوسط في السنوات المالية 2021، أو 2022، أو 2023. وفي خضم أزمة تكلفة المعيشة، ينصب تركيز الرئيس على الأسلحة ودعم حرب كاملة ضد مدنيين في قطاع غزة.
إن المخاوف الصريحة التي عبَّر عنها الرئيس زيلينسكي خلال مقابلة مع محطة الإذاعة الألمانية ARD تبرز اليأس المتزايد من الدعم الأمريكي والأوروبي المستمر. وتلخص تصريحاته الخوف الذي يلوح في الأفق من العزلة مع تضاؤل المساعدات الخارجية، الأمر الذي يسلط الضوء على المنعطف الحرج الذي تجد أوكرانيا نفسها عنده. إن دعوة الرئيس إلى الإيمان بالتضامن الوطني والدولي لا تعكس مجرد دعوة للعمل، بل إنها تذكير مؤثر بالعواقب المحتملة لتضاؤل الدعم على دفاع أوكرانيا وعزمها في الصراع.
وترسم مناقشات زيلينسكي الصريحة حول المساعدات الغربية المتأخرة والمجزأة صورة قاتمة للصراعات المستمرة والكسر المحتمل للتحالف عبر الأطلسي. إن استعداده لاستكشاف أي حل ممكن، بما في ذلك الاقتراح الذي اقترحه الرئيس السابق ترامب بشأن الإنهاء السريع للحرب خلال 24 ساعة بحسب ترامب، يسلط الضوء على مدى إلحاح وخطورة مأزق أوكرانيا. علاوة على ذلك، تسلط تعليقات الرئيس الأوكراني مع القناة الألمانية بشأن توزيع المساعدات على اللاجئين الأوكرانيين الضوء على القلق العملي بشأن فاعلية آليات الدعم الحالية. وبينما يعترف الرئيس بسخاء المساعدات الخارجية للاجئين، فإنه يشير إلى أن توجيه المساعدات مباشرة عبر الحكومة الأوكرانية قد يلبي بشكل أفضل احتياجات مواطنيها ويدعم الاقتصاد الأوكراني ويعتبر ذلك إشارة إلى الوضع الاقتصادي المتدهور في أوكرانيا ورغبتها حتى بالحصول على المساعدات المالية التي تقدمها الدول الأوروبية للأوكرانيين الفارين من بلادهم.
ويبدو أن الدول الأوروبية عادت لتمارس تبادل الأدوار في إطلاق التصريحات حول الدعم لأوكرانيا وهذا ما يسبب إحباطاً أكبر؛ حيث وعلى الرغم من التصريحات والوعود الأوروبية السابقة بتوفير "مليون طلقة" للجيش الأوكراني ضمن سياق حملة النقل الفوري للذخائر إلى أوكرانيا خصوصاً قذائف "المدفعية من عيار 155 ملم"، فإن الوعود لم تتحقق بل على العكس بدأ قادة الناتو يتحدثون عن أن توفير الأسلحة لأوكرانيا ليس مجانياً، بل يجب على أوكرانيا الدفع مقابل تلقي هذا النوع من الإمداد العسكري.
كما عكست تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن إرسال جنود من الجيش الفرنسي إلى أوكرانيا، حجم الانقسام داخل هذا المعسكر؛ حيث سارعت كل من الولايات المتحدة وألمانيا إلى نفي أي قرار مستقبلي لنشر قوات الناتو أو القوات الخاصة بهذه البلدان في أوكرانيا لمواجهة الروس هناك. وهذا يعني انقساماً حاداً في حلف الشمال الأطلسي، وأنه لن يتخذ أي قرار مستقبلي بشأن التدخل المباشر في الحرب.
وبينما تستعد أوكرانيا لهجوم روسي متوقع واسع النطاق في أواخر مايو القادم، حسب الرئيس الأوكراني نفسه، فإن الواقع المرير المتمثل في الخسائر الإقليمية المحتملة والخسائر العسكرية الكارثية يلوح في الأفق. ويسلط هذا التهديد الوشيك، مقترناً بالتردد الغربي الواضح، الضوء على الموقف الخطير الذي تجد أوكرانيا نفسها عالقة فيه بين الوعد بالدعم والواقع القاسي المتمثل في التخلي الجيوسياسي.
إن حكاية أوكرانيا العسكرية وسط تراجع الدعم الغربي ليست مجرد قصة صراع عسكري، بل هي إشارات عميقة حول هشاشة التحالفات الدولية وتعقيدات السياسة العالمية. إن الوضع في أوكرانيا بمثابة تذكير صارخ بالعواقب عندما تتجاوز المصالح الجيوسياسية كل الاعتبارات الأخرى وفي هذه اللحظة الحاسمة، لن تحدد الخيارات التي اتخذتها الدول الغربية مصير أوكرانيا فحسب، بل ستشكل أيضاً ملامح الصراع الغربي-الروسي لسنوات قادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.