يحمّل كثيرون، ولا سيما في العالم العربي، مسؤوليةَ ما يجري في غزة منذ ما يقارب الخمسة أشهر، من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وما يمكن أن يرقى لجريمة إبادة، للفلسطينيين أنفسهم، ولا سيما لمقاومتهم، لأنها قامت بعملية 7 أكتوبر.
ويندرج ذلك ضمن ما يُعرف بثقافة "لوم الضحية". في مقال سابق بيَّنا دينامية هذا المفهوم في تصويب الرؤية في صراع المظلوميات. نحاول في هذا المقال تبيان كيف يشكل لوم مقاومة الفلسطينيين إخضاعاً للوعي، وخضوعاً في اللاوعي. نستعرض فيما يلي الأهداف السياسية الكامنة وراء لوم الفلسطينيين، وثقافتهم، وخصوصاً مقاومتهم، عما يجري في غزة منذ خمسة أشهر، فضلاً عما تنمّ عنه ثقافة لوم المقاومة الفلسطينية هذه من استيعاب، في اللاوعي الجمعي في العالم العربي، للأيديولوجيا الغربية المهيمنة في العالم تجاه إسرائيل.
في النزاعات المسلحة ليس لوم الضحية حكراً على حالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فلو عدنا قليلاً إلى الوراء للاحظنا أنه تم أيضاً، في السابق، لوم الأوكرانيين مثلاً على الغزو الروسي لبلدهم واحتلال أجزاء كبيرة منه. كما تم لوم السوريين، الذين ثاروا ضد النظام، على الحرب الضروس التي شنها النظام بعد ذلك على شعبه، وقد جاء هذا اللوم تحت مقولة "كنا عايشين" التي انتشرت بالمناسبة في بلدان الربيع العربي كالنار في الهشيم.
ولو عدنا أكثر في التاريخ الحديث لظهرت أمثلة عديدة أخرى في ثقافة لوم الضحية، ولعل أبرزها ثقافة حكومة "فيشي" أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كان أحد أعمدة خطاب هذا النظام تأثيم الفرنسيين على ما يمكن أن يحصل للشعب الفرنسي، في حال لم يتعاونوا مع الاحتلال الألماني، ولا سيما في حال قاموا بمقاومة الاحتلال. وهذا النوع من الخطاب شائع في حالات الاحتلال العسكري، إذ غالباً ما يتم استعمال لوم الضحية لتبرير الخضوع للاحتلال.
لوم المقاومة لتبرير الخضوع للاحتلال
لم تقتصر حكومة فيشي، ولا سيما في البدايات، على القوى السياسية الفرنسية الفاشية، أي تلك اليمينية المتطرفة التي كانت مفتونة بألمانيا النازية، بل على العكس، كثير من رموز فيشي كانوا من "المعتدلين" قبل الحرب العالمية الثانية، ومنهم من رافضي الحرب والعنف (pacifistes)، الذين اعتبروا أنّ السبيل الأفضل لحماية فرنسا هو التعامل مع واقع الاحتلال المستند إلى قوة "الڤيرماخت" التي لا تقهر في كل أوروبا، ولا سيما بعد هزيمة فرنسا في ربيع ١٩٤٠.
كانت سلطة "فيشي" تبرر خضوعها للمحتل بضرورة حماية فرنسا وحياة الفرنسيين، وكان الماريشال "فيليب بيتان" يعتبر الجنرال شارل ديغول وحكومته بالمنفى، فضلاً عن المقاومة الفرنسية، من المتهورين الذين يعرضون حياة الفرنسيين للخطر بسبب مقاومتهم للاحتلال. مثلاً في نداء ٦ يونيو ١٩٤٤ الذي ألقاه قبيل إنزال الحلفاء على شواطئ النورماندي الفرنسية المحتلة، يقول الماريشال بيتان: "أيها الفرنسيون، لا تزيدوا من مصائبنا بأفعال يمكن أن تؤدي إلى أخطار الانتقام المأساوي منكم. سيكون السكان الفرنسيون الأبرياء هم من سيتحملون العواقب. لا تستمعوا لأولئك (أي ديغول والمقاومة الفرنسية) الذين يسعون إلى استغلال محنتنا ويقودون البلاد إلى الكارثة. لن تنقذ فرنسا نفسها إلا من خلال الالتزام بالانضباط الصارم، لذا أطيعوا أوامر الحكومة، وليقم كل واحد بواجبه، قد تدفع ظروف المعركة الجيش الألماني إلى اتخاذ ترتيبات خاصة في مناطق القتال، اقبلوا هذه الضرورة، فهذه توصية ملحة أقدمها لكم حرصاً على سلامتكم. أناشدكم أيها الفرنسيون أن تفكروا قبل كل شيء في الخطر المميت الذي قد تتعرض له بلادنا إذا لم يتم الالتزام بهذا التحذير العلني".
يذكر أن الجنرال ديغول قد قال في ندائه في اليوم نفسه ما يتعارض تماماً مع ما قاله بيتان: "ستخوض فرنسا هذه المعركة بغضب (…) بالنسبة للأمة التي تقاتل مقيدة الأيدي والأرجل ضد الظالم المدجج بالسلاح، فإن التنظيم الجيد في المعركة يتطلب عدة شروط. (…) وهذا يعني أن عمل قوات المقاومة يجب أن يستمر وينمو حتى لحظة هزيمة الألمان (…) أي شيء أفضل من أن تُهزم دون قتال. (…) خلف السحابة المثقلة بدمائنا ودموعنا، هنا تظهر شمس عظمتنا من جديد!".
نعلم جميعاً كيف انتهت الأمور، ومَن دخل التاريخ من بابه العريض ومن ذهب لمزبلة التاريخ، رغم محاولات البعض، كاليميني المتطرف إيريك زيمور اليوم، إعادةَ تأهيل صورة بيتان.
في خطاب بعض المثقفين العرب اليوم، الذي يلومون فيه الفلسطينيين على مقاومتهم، منسوب كبير من خطاب الماريشال بيتان وأدبيات حكومة فيشي. ربما تكون النية من وراء ذلك طيبة أحياناً، ولكن كما يقول الفرنسيون: طريق الجحيم مليء بالنوايا الطيبة، بيد أنه في أحيان كثيرة أخرى، من الواضح أنّ الهدف من لوم الفلسطينيين وثقافتهم، وخصوصاً مقاومتهم، هو غالباً تبرير الخضوع للاحتلال (والقبول بسياسية التطبيع التي تنتهجها بعض الدول العربية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني)، والإمعان في تقويض الحق بمقاومة الاحتلال عملياً، وذلك من باب القول إنّ الخضوع للاحتلال وممارساته وشروطه أجدى من المقاومة، وأقل خطراً منها. وغالباً ما يترافق ذلك دون أي ذكر لمسؤولية الاحتلال، وكأن الاحتلال أمر طبيعي ومشروع ومفروغ منه يجب القبول به والتعامل معه كواقع حتمي.
وهذا ما يقع فيه الكثيرون اليوم في العالم العربي، ممن يفهمون السياسة كخضوع للأقوى، ومراوحة في الظلم، غالباً باسم "واقعية" مغلوطة، ليست في الحقيقة إلا الاسم الآخر للكلبية (المذهب الكلبي) بمفهومها السلبي، المتجرد من أي مبدأ، المرادف نوعاً ما للسفالة السياسية، والسكوت عن الظلم، والتأقلم معه وتبريره، أي المعنى الذي أخذته الكلبية منذ القرن التاسع عشر.
حماس ليست فوق النقد، ولا عملية 7 أكتوبر، ولا سيما أنّ بعض قياديي حماس ظهروا في الإعلام مؤخراً وأجروا نوعاً من النقد الذاتي بخصوص 7 أكتوبر. ولكن المؤسف هو الاستثمار الذي يجريه كثيرون في هذا النقد (أي التقييم المشروع والمطلوب للجدوى العسكرية من العملية، وحسابات الربح والخسارة) لإشاحة النظر عن مسؤولية إسرائيل الأخلاقية، والقانونية، والسياسية، وللمساواة في تحميل المسؤوليات بين الضحية والجلاد، هذا إن لم يتم أصلاً إغفال كلي لمسؤولية الجلاد والتركيز حصراً على "مسؤولية" الضحية، كل ذلك بهدف تصفية حسابات سياسية مع حماس، ولو تطلّب ذلك الغرق في ثقافة "لوم الضحية" وما يحتويه ذلك من تضامن ضمني مع المجرم، ولو كان ذلك على حساب كل القيم الإنسانية والدينية.
لوم المقاومة الفلسطينية كاستيعاب للأيديولوجيا الغربية المهيمنة تجاه إسرائيل
من جهة أخرى، هناك من يحاول التنصل من حقيقة وقوعه في ثقافة "لوم الضحية"، وذلك من خلال تذرّعه بالفرق في نوع المسؤولية التي يلقيها على عاتق الضحية. فبالنسبة لهؤلاء، إذا تم اعتبار أنّه بفعل تصرف الضحية، الأخيرة مسؤولة عن الجريمة التي حصلت لها، فهذا لوم للضحية، وهو أمر مرفوض. أما إذا تم اعتبار أنّه بفعل تصرف الضحية، الأخيرة مسؤولة عن عدم تفادي حصول الجريمة، فهذا ليس لوماً للضحية بنظرهم، بل نقد مشروع.
المشكلة التي يطرحها هذا التفريق المصطنع والتسطيحي بين المسؤولية عن الجريمة، والمسؤولية عن تفادي حصولها، هي أنّ الحالة الثانية (المسؤولية عن تفادي حصول الجريمة) تؤدي عملياً إلى لوم الضحية أيضاً، فهل تفادي حصول الجريمة هو من مسؤولية ضحية هذه الجريمة؟
لو كان السؤال: هل من مسؤولية جهة معينة تفادي ردة فعل تندرج ضمن الحق بالدفاع عن النفس تمارسه جهة مقابلة، فالجواب في هذه الحالة يكون إيجابياً، ولا سيما أنه، عندها، لا يمكن اعتبار من يقع ضده فعل الدفاع المشروع عن النفس، كـ"ضحية". ولكن من أجل ذلك، يجب أن تندرج ردة فعل الجهة المقابلة ضمن الحق بالدفاع المشروع، وضمن شروط هذا الدفاع المشروع.
فحتى لو سلمنا جدلاً بأنّ لإسرائيل الحق في الدفاع المشروع بعد عملية 7 أكتوبر (بيد أنّ في الرأي الاستشاري حول الجدار الفاصل (٢٠٠٥)، تعتبر محكمة العدل الدولية أنه لا حق بدفاع مشروع لقوة تمارس الاحتلال ضد شعب واقع تحت الاحتلال)، إلا أن إسرائيل بجميع الأحوال قد تخطت حدود الدفاع المشروع بأشواط، منتهكة مبدأ التناسب في الدفاع المشروع.
بكلام آخر، حتى لو سلمنا جدلاً بأنّ لإسرائيل حق الدفاع المشروع في هذه الحالة، إلا أنّ ما قامت به لم يعد دفاعاً مشروعاً، بل تخطى ذلك ليصبح سلسلة من الجرائم الدولية (جرائم حرب، جريمة ضد الإنسانية، وحتى ما يمكن ربما أن يرقى لجريمة إبادة). وعليه المسألة ليست مسألة تفادي ردة فعل تندرج ضمن الدفاع المشروع عن النفس، بل هي مسألة تفادي جريمة، فهل من مسؤولية الضحية تفادي الجريمة التي يمكن أن تحصل لها؟
الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال يعني تبرير الجريمة، وهذا أمر خطير جداً، إذ لا شيء يمكن أن يبرر الجريمة، فتبرير الدفاع المشروع شيء، أما تبرير الجريمة فشي آخر تماماً، وهو أمر غير جائز لا قانونياً ولا أخلاقياً، لأنّ تبرير الجرائم المرتكبة هو إدانة أخلاقية للمبرّرين أنفسهم. الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال يعني أيضاً الاعتراف ضمنياً بـ"حق" مزعوم لإسرائيل بالتصرف خارج حدود القانون الدولي، وخصوصاً دون الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، أي الاعتراف عملياً أنّ إسرائيل فوق القانون الدولي والقبول الضمني بهذا الواقع، فضلاً عما يتضمن ذلك من تبرير لإفلات إسرائيل من العقاب.
لا يمكننا أن ننتقد الغرب على معاملته إسرائيل كاستثناء عالمي باعتبارها فوق القانون الدولي، إذا كنا نحن نعاملها بنفس طريقة الغرب، أو بالأحرى إذا كنا قد استوعبنا داخلياً (بمعنى intériorisation) الأيديولوجيا الغربية المهيمنة بالتعامل مع إسرائيل، والتي تفرضها إسرائيل نفسها على العالم. ويتجلى هذا الاستيعاب الداخلي، المتجذر في جزء معتبر من اللاوعي الجمعي العربي، في أنّ كثيراً منا لم يعد ينتبه إلى خطورة نتائج تحميله مسؤولية تفادي حصول الجريمة بحق الفلسطينيين، للفلسطينيين أنفسهم (ولا سيما من مسؤولية مقاومتهم للاحتلال)، مع ما يضمر ذلك، كما حاولنا تبيانه أعلاه، من قبول ضمني باعتبار أنّ اسرائيل فوق القانون الدولي.
لذلك من الضروري ليس تبيان الأهداف السياسية الكامنة وراء لوم مقاومة الفلسطينيين وحسب، والتي مفادها إخضاع الوعي العربي لحتمية الاحتلال، بل أيضاً تفكيك استيعاب (أو تخزين) اللاوعي العربي للأيديولوجيا القائلة بأنّ إسرائيل فوق القانون الدولي.
فمن غير الجائز، لا أخلاقياً، ولا قانونياً، ولا سياسياً تبرير الجريمة، أيّ جريمة. إنّ لوم الضحية- ولو كان أحياناً عن عدم تيقّن- من أبشع محاولات التبرير تلك، ومحاولات تبرير الجرائم المرتكبة في غزة عبر ثقافة "لوم الضحية" هي إدانة للمبرّرين أنفسهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.