أثناء الزلزال الأخير الذي أصاب منطقة الحوز في المغرب، كانت هناك الكثير من القصص الإنسانية التي تستحق أن تحكى نظراً لما يمكن أن تحتويه من دروس، لكن هناك قصة غريبة هي التي لفتت انتباهي ولم أنسَها، حكى القصة رجل متقدم في السن، عن فقيه القرية أو إمام المسجد، حيث يقول هذا الرجل المسن: "لقد نجا إمام المسجد بأعجوبة، حيث إن كل المبنى الذي كان يتواجد به قد هُدم عن آخره، ما عدا المكان الذي كان نائماً فيه، لكن ما إن استفاق حتى بدا سلوكه غريباً، حيث إنه كان يصر على أن يعود إلى مكانه، مع أن المبنى كان محطماً، فالرجل المتقدم في السن يقول له إن منزلك قد هُدم، وهو يرد عليه بطريقة لا واعية، لا دعني أذهب إلى منزلي…".
طبعاً الرجل المتقدم في السن لم يستطع أن يفهم حالة هذا الفقيه، وربما قد صُدم من سلوكه، فهو الفقيه المرجو أنه سيواسي الناس الذين فقدوا أهاليهم بل وهناك من لم يظل له أحد من أقربائه، لكن فإذا به هو الذي يحتاج إلى المواساة، قد يبدو الأمر متناقضاً، لكن إذا ما حاولنا أن نفهم ما الذي قد يكون حدث لذلك الإمام سيزول الاغتراب، بدون شك أن تلك الحالة التي كان فيها الفقه هي صدمة نفسية، وهذا ناتج عن حالة نفسية هشة بكل تأكيد، قد يكون الصفة التي عند الفقيه وهو أنه إمام وحافظ للقرآن المفروض فيه أن لا يتأثر، إذ الإيمان يعين الإنسان على التحمل وتقبل الأزمات، لكن هذا مجرد كلام ملقى على عواهنه، هناك أمور كثيرة لا بد من أن نفهمها قبل أن نتحدث عن الإيمان.
جسد الإنسان كما أنه مزود بجهاز مناعي يقيه من الفيروسات، كذلك فإنه مجهز "بجهاز" نفسي المفروض أن يقيه من الصدمات والأزمات النفسية، وإلا فإنه لن يستطيع أن ينجو في هذه الحياة، فإذا ما عدنا إلى وجهة النظر البيولوجية، فالجهاز المناعي للإنسان يعمل بالطريقة الآتية، أولاً يتعرف على الفيروسات أو مختلف الفيروسات الموجودة في العالم أو على الأقل في المحيط الذي يتواجد فيه هذا الجسد، من ثم يبني مقاومة لها، هذا لا يعني أن هذا الجهاز يستطيع أن يحميك من جميع الفيروسات، فبعضها ربما لا يستطيع مقاومتها، وبعضها الآخر يحتاج إلى دعم منك، لقاحات أو غيرها، حتى يستطيع أن يقاومها، لكن المهم هو أنه لا بد من أن يتعرف على هذا الفيروس، ولا بد من حالة اضطراب وهيجان تعتريه حينما يتعرف على هذه الفيروسات لأول مرة، لكن ما إن يستطيع هزم الفيروس حتى يعود إلى حالته الطبيعية، هذا الأمر مفصل في السلسلة التي بثتها نيتفلكس والتي تحمل عنوان: human: the world within.
لنعد الآن إلى الجانب النفسي وما الذي يقوله علماء السيكولوجيا في هذا المجال، المقاربات الموجودة الآن في مجال السيكولوجيا هي مقاربات تكاملية، ولم تعد المقاربات الاختزالية تجدي نفعاً اليوم، ومعنى هذا أن هناك عدة علوم وتخصصات تساهم في مجال الصحة النفسية، وأهمها بطبيعة الحال البيولوجيا، العصبيات، الفيزياء، وغيرها كثير من التخصصات، لأن الظاهرة النفسية للإنسان معقدة، فلا يمكن اختزالها في تخصص واحد، بل مع هذه العلوم جميعها وبالكاد يحاولون التقرب وفهم أكثر هذا الكائن الغريب.
فجهاز المقاومة النفسي لا يختلف كثيراً عن جهاز المقاومة البيولوجي أو المناعة، فكما أن هذا الجهاز يحتاج للتعرف على الفيروسات الموجودة في محيطه فكذلك الجهاز النفسي، فإنه إن صحَّ التعبير يحتاج إلى التعرف على مختلف الصدمات التي يمكن أن تواجهه في الحياة حتى يتأقلم معها، ومن ثم يمتلك قوة الصمود والمقاومة للمخاطر التي من المحتمل أن تواجهه في المستقبل، وإلا فإنه إن لم يتعرف على هذه الصدمات، فإن جهازه النفسي سيكون هشاً، ومن ثمَّ فإن أي صدمة حتى ولو كانت بسيطة قد تجعله يدخل في حالة من فقدان التوازن النفسي، وربما تؤدي به إلى الدخول في حالات نفسية مرضية مثل الاكتئاب والقلق على المدى البعيد.
فالإنسان في الحقيقة يتعلم من الصدمات النفسية، حسب المقاربة التطورية، فإن الأفراد الذين ما زالوا أحياء إلى اليوم هم أولئك الذين استطاع أجدادهم تحمل وتكبد قسوة الحياة، وتجاوز مختلف الصدمات النفسية التي واجهوها، والتكيف أو التأقلم معها، هذا التكيف أو التأقلم مع البيئة هو الذي يعطي للإنسان القدرة على التكيف مع أي صدمات محتملة، وهو الذي يسمى the resilience والتي اشتغل عليه كثيراً بوريس boris cyrulink كما أن ما كتبه فيكتور فرانكل في كتابه عن العلاج بالمعنى ربما لا يختلف كثيراً عن هذا الأمر، غير أن البحوث اليوم متقدمة في هذا المجال، وتعتمد على عدة تخصصات، سواء فيما يتعلق بالتخصصات التي تبحث في الجانب البيولوجي في الإنسان أو الجانب الاجتماعي، فكما أسلفت، فالسيكولوجيا اليوم تعتمد مقاربة تكاملية، بعد ما أثبت العلم اليوم أن كلا العاملين يؤثر في الآخر، أي الاجتماعي أو النفسي يؤثر في البيولوجي والعكس صحيح.
لكن لماذا البعض يستطيع تجاوز الصدمات النفسية في حين يفشل آخرون؟
الجواب ليس سهلاً عن هذا الأمر، إذ تبقى كل حالة ينبغي أن تشخص على حدة، لكن ما يؤكده الباحثون في هذا الميدان هو أن للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان، ثم طبيعة النمو في مرحلة الطفولة، كل ذلك له دور في هذا الأمر، فإذا كبر الشخص في بيئة أو بين أسرة أفرادها ليسوا متزنين نفسياً، فإنه على الأغلب فإن هذا الطفل لن يمتلك لا القدرة ولا المهارات اللازمة في المستقبل على مواجهة صعوبة الحياة، حيث إن جهازه النفسي والذي بدوره مرتبط بالبيولوجي لن يستطع التمكن من بناء جهاز مناعي، دعنا نقُل "نفسي" لمقاومة الصدمات، بينما لو كبر الطفل في بيئة واعية بهذا الأمر وتشجع الأطفال على الاندماج في الحياة على التجريب وتحدي الصعوبات ولو بسيطة كل هذا يساعد الطفل على تجاوز الأزمات والصدمات التي من الممكن أن تواجهه في المستقبل.
قد يكون البعض عندهم مشاكل جسدية بكل تأكيد، إما من الجينات أو من بعض الأمراض التي يمكن أن يكون لها دور في ذلك، لكن الغريب هو الدور الذي تلعبه التغذية هنا أيضاً، والبحوث كثيرة في هذا الميدان، حيث إن للتغذية علاقة وطيدة بالأمراض النفسية التي يمكن أن تصيب أو تزيد من احتمالية الإصابة أيضاً، لهذا بقدر ما يحتاط الإنسان في هذا الجانب بقدر ما سيحصل على مزاج سليم، حسب تعبير القدماء، أو حالة نفسية متزنة كما يرى السيكولوجيون، أو يعيش الحياة الطيبة well being.
أعتقد حان الوقت الآن لنعود لقصة الإمام، بدون شك فإن هذا الإمام إن كان ما زال صغير السن فإنه لم تمر عليه أزمة نفسية أو صدمة بمثل هذه التي عاشها، ثم إن طبيعة التكوين التي قد يكون مر بها هذا الشخص هي أنه لم يكن له ارتباط بالحياة اليومية كثيراً، هذا يعني أن احتمال مواجهته للصدمات قليل جداً إن لم يكن ينعدم، حيث إنه أثناء مرحلة التكوين يلازم المسجد، وبعد ذلك يلازمه أيضاً أثناء مرحلة الإمامة، إذا ما حاولنا تخيل جهازه النفسي فإننا نستطيع أن نقول إنه من المؤكد أنه هش، وذلك لقلة التجارب التي من المفروض أن يكون قد خاضها، وهذا ما يزيد من احتمال تأثره بأي صدمة قد يتلقاها، في حين نجد الشيخ المتقدم في السن، بدون شك، منذ طفولته وهو يواجه تحديات الحياة، فاستطاع أن يكوّن صلابة نفسية تقيه من مخاطرها، هذا مجرد تفسير نظري وليس بالضرورة أن يكون هو الذي ينطبق فقط على هذه الحالة دون غيرها، فالمشخص لحالته بعينها هو الذي يستطيع أن يجزم بذلك.
لكن ما أريد التأكيد عليه، هو الدور الذي تلعبه تجارب الحياة الصعبة، حيث إن الإنسان يكون مزوداً بصلابة نفسية تقيه مخاطرها، cyrulink وغيره كثير يحكون القصة التي عاشوها أثناء حادثة المحرقة الشهيرة، وكيف أنهم من خلال تلك الأحداث استطاعوا أن يجعلوها دافعاً للتشبث بالحياة أكثر، بدون شك وأنا أرقن هذه الكلمات أستحضر كلمات إدغار موران الأخيرة فيما يخص حالة غزة، واستغرابه كيف أن هؤلاء الذين عانوا من الاضطهاد مصرون على أن يمارسوه على غيرهم، إنه فعلاً الجانب الجنوني في حياة الإنسان ليس إلا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.