لعل إحدى أغرب وأفظع طرق القتل الحديثة هي أن يقتلك أحدهم بيدك أنت، أن يتخذ قراره بشأن حياتك، وعدم استحقاقك لها، فيدفعك إلى النقطة التي يتحقق معها مراده، هكذا تتخلص من نفسك بنفسك؛ هرباً من جحيم "المبتز"، ذلك الذي يطاردك ليلاً نهاراً، حتى يصير الموت أهون من الحياة، ويصير تراب المقبرة أكثر رفقاً من قسوة المحيطين، وفظاعة العالم.
القصة الأصعب
لن أنسى لحظة ذلك الشعور بمعدتي، وأنا أقرأ واقعة الفتاة المصرية الجميلة بسنت، شابة حسنة الطلعة، إن أردت وصفها بكلمة فهي "بريئة" جداً، أوقعها حظها في اثنين بلا ضمير، في مجموعة من الشباب قاموا بالاستيلاء على صور خاصة بها، وتهديدها بنشر صور مخلة منسوبة لها، بقصد استغلالها جنسياً، وإجبارها على ممارسة أفعال مخلة، بل وصل الأمر إلى اتهام بعضهم بهتك عرضها بالقوة والتهديد.
مازلت أتذكر تلك الورقة التي تركتها بسنت لوالدتها، تقول لها: "ماما يا ريت تصدقيني، أنا مش البنت دي، دي صور مفبركة، أنا ماستاهلش اللي بيحصلي ده"، لكنّ أياً من دموعها أو شعورها بالظلم والفضيحة في قريتها لم يشفع لها عند أسرتها أو مجتمعها، ومن بينهم أستاذها، الذي تم إلقاء القبض عليه، على خلفية جملته لها أمام أصدقائها: "بقيتي الترند رقم 1 في مصر".
انتحرت بسنت بـ"حبة غلة"، صارت هي ذاتها الحبة التي تلجأ إليها أغلب الحالات التي تيأس من رحمة الحياة، فتذهب إلى رحمة الله.
صحيح أن القصة انتهت بسجود والد بسنت في أرض المحكمة، عقب الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات طنطا في مصر، بمعاقبة المتهمين الـ5 في قضية بسنت خالد، ضحية الابتزاز الإلكتروني، بـالسجن 15 سنة لـ3 متهمين، و5 سنوات لاثنين آخرَين من المتهمين، لكن هل رَدَع الحكم مجرمين آخرين؟ للأسف لا!
ما الذي جرى مع "نيرة"
صار اسم "نيرة" في مصر مقترناً بقضيتين شهيرتين، انطلقت كل منهما من نقطة واحدة، هي "الابتزاز" الإلكتروني، أو ما يُعرف أيضاً بـ"الإيذاء" السيبراني، أما نيرة الأولى فتُدعى نيرة أشرف أحمد عبد القادر، فتاة جميلة تعرضت لمضايقات عبر الإنترنت قبل ثلاث سنوات، من شاب يدعى محمد عادل، كان زميلاً لها بالكلية، لم تكن نيرة وقتها سلبية، فقد توجهت إلى مديرية أمن الغربية، وتحديداً إلى قسم تكنولوجيا المعلومات، حيث قامت بتحرير محضر ضده، أثبتت فيه قيامه بعمل حساب باسمها على موقع التواصل الاجتماعي إنستغرام، وانتحال صفتها باستخدام صورها الشخصية، وكتابة عبارات تسيء لسمعتها بقصد التشهير بها، ما سبّب لها أضراراً معنوية وأدبية جسيمة.
الحق أن هذا لم يكن المحضر الوحيد، حاولت نيرة حماية نفسها بكل الطرق القانونية المتاحة، لكن القصة انتهت بذبحها أمام كليتها في الطريق العام، ولكن الأكيد أنها قد ماتت قبل تلك المرة مرات أخرى وهي تتلقى تهديداً تلو الآخر، تارةً بالفضح، وتارةً بالقتل، وتلك ليست القصة الأخيرة.
فاسم نيرة هو حالياً عنوان لقضية تؤذي من يسمعها نفسياً، بطلتها شابة جميلة تُدعى نيرة أيضاً، لكنها هذه المرة في محافظة مختلفة، تحديداً في العريش، حيث أثارت أنباء وفاة طالبة بكلية الطب البيطري غضب الكثيرين، خاصةً عقب تداول رسائل تهديد تلقتها الشابة من عدد من أفراد الكلية، بينهم طلبة، وضغوط شملت عدداً من العاملين بالكلية، وكسابقتها حاولت الفتاة أن تشكو مما تتعرض له من تهديدات، وما تتلقاه من رسائل تطالبها باعتذار فوري قبل أن يتطور الأمر ويتم نشر بعض الأمور الخاصة بها وفضحها، وقد اعتذرت بالفعل الفتاة على الملأ لزميلتها شروق التي طالبتها بالاعتذار، لكن يبدو أن هذا لم يكن كافياً، حيث تَوَاصل الضغط والإيذاء الذي لم ينتهِ بوفاتها.
كان عدد من الطلاب قد شهدوا أن شروق وشاباً تربطها به علاقة، قد أعلنا عبر مجموعات التواصل الاجتماعي أنهما سيقومان بنشر صور عارية للطالبة، وحدَّدا توقيتا معيناً لنشر الصور، التي قيل أيضاً إنها صور التقطتها لها زميلتها أثناء استحمامها دون أن تدري.
شعرت نيرة باليأس بعدما قيل لها إنها لن تفلح في الحصول على حقها، حيث تضمنت القصص التي يتم تداولها على لسان طلاب الكلية أن والد زميلتها التي تُواصل تهديدَها ضابط، وهي المعلومة نفسها التي تلقتها من مسؤولين بالكلية، حين حاولت أن تنقل لهم ما يجري، فأخبروها أن ابنة الضابط لن تنال عقاباً أبداً، وهو ما تبيّن عدم صحته لاحقاً، حيث تم وقف الرجل، الذي تبيّن لاحقاً أنه رائد شرطة، عن العمل، على خلفية وفاة الشابة.
مزيد من التحقيقات أشارت إلى تورط والدة زميلتها في الابتزاز، وعدد آخر من الأشخاص، لكن الثابت أن نيرة رحلت، وما بين اتهام للمبتزين بأنهم قتلوها بالسم، وبين اتهامهم بالابتزاز فقط الذي دفعها للانتحار، يبقى الثابت أن شابة جميلة في عمر الـ18 عاماً لم تعد بين الأحياء، بسبب "الابتزاز".
ابتزاز متواصل في الحياة وبعد الموت!
لم تسلم أيٌّ من الضحيتين حتى بعد الموت، فرغم عدم ثبوت انتحار نيرة طالبة العريش بعد، فإن العديد من الصحف لا تزال تتعامل مع الواقعة باعتبارها انتحاراً، ورغم تعرُّض نيرة أشرف للقتل بطريقة مرعبة، ظلَّت مقاطع فيديو وصور فاضحة مفبركة أو غير ذلك تطاردها، باعتبارها تستحق ما ارتُكب بحقها!
لن أنسى مطلع ذلك الخبر، على موقع عربي شهير، والذي تضمن معلومات غير مؤكدة بشأن صداقة نيرة، طالبة العريش الضحية، يتم اتهامها خلاله بأنها كانت على صداقة بعامل توصيل، الرواية التي يتم سردها على لسان عائلات المتهمين تبناها بعض الصحفيين، دون الإشارة إلى المصدر بأي شكل، ما بدا شكلاً إضافياً للظلم والعدوان على ضحية لم تعد بين الأحياء، أما في قضية نيرة أشرف فحدّث ولا حرج عن كمّ القنوات والصفحات التي أرادت حصد علامات الإعجاب والمشاهدات على جثة القتيلة!
أرقام مرعبة ومأساة مستمرة
في دراسة مصرية بعنوان "العنف الجنسي الإلكتروني في مصر" رصدت مجموعة من الباحثين المصريين حوادث الابتزاز والإكراه الجنسي في مصر على مدار ثلاث سنوات فقط، حيث تبين تزايُد الحوادث بصورة لافتة، وأسفرت عملية الرصد للحوداث المنشورة في الصحف عن وجود 169 واقعة ابتزاز إلكترونية منشورة في الصحف المصرية، من يناير 2019 إلى ديسمبر 2022، وكان ما يزيد عن نصف حوادث الابتزاز والإكراه الجنسي إلكتروني، نحو 11.8% منها عام 2019، بينما وقع 50.3% منها عام 2022 والبقية تستمر.
وبحسب الدراسة فقد احتلت الصور الشخصية ذات الطابع الجنسي المرتبة الأولى بنسبة 72.2%، ولكن المسألة ليست حكراً على مصر وحدها، فالابتزاز الإلكتروني لأسباب عديدة، وعلى رأسها الاستغلال الجنسي، صار سمةً عامةً للجيل زد، ذلك الذي يستهلك التكنولوجيا كالطعام والشراب خلال يومه العادي.
القادم مرعب جداً
ما فات ظلم، والقادم ظلمات، رغم كل تلك الحملات التي انطلقت في مصر وعدد من الدول العربية على يد مؤسسات حقوقية، لدعم الفتيات اللائي يتعرضن للابتزاز، قانونياً وتقنياً ونفسياً، من بينها تلك العيادة الرقمية التي أطلقتها مؤسسة قضايا المرأة المصرية، لمساعدة الفتيات على التصدي لمثل تلك الحالات، فضلاً عن وجود جهات شرطية متخصصة في هذا الشأن مثل مباحث الإنترنت في مصر، لكن الخرق يبدو واسعاً جداً على أن يتم رتقه، خاصة مع خاصية التزييف العميق أو الـdeepfake، حيث لم يعد الأمر يتعلق بالاستيلاء على صور الضحية من هاتفها، أو تصويرها خلسة، صار الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك مع تزييف كامل بواسطة الذكاء الاصطناعي للصوت والصورة، وصولاً إلى إنتاج مقاطع فيديو كاملة فاضحة، زائفة، لكنها لا تبدو كذلك لمن يراها.
صارت مقاومة التزييف والابتزاز كالحرث في الماء، رادعها الوحيد برأيي نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم حول النجاة، حين سأله عنها عقبة بن عامر، فكان رده: "أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.