في عالم تتداخل فيه خيوط الثقافة والسياسة بشكل معقد، يطرح السؤال حول نظرة الغرب إلى الشرق بعدسات محملة بالافتراضات المسبقة حول الهوية والعقيدة والعرقية. وتبرز هذه الاستفسارات بقوة في ظل الحروب التي تشهدها ضفاف البحر الأبيض المتوسط، مسلطة الضوء على تعقيدات العلاقات الدولية والتفاعلات الثقافية. لا يمكن النظر إلى هذا السؤال ببساطة، فهو يغوص في أعماق تاريخية تشهد على سنوات من النظرات الاستعلائية، والتمييز العرقي، وفكرة التفوق الأبيض. وما بين 24 فبراير/شباط 2022 و7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تكشف الأحداث عن معايير مزدوجة تُطبق بحسب السياق الجيوسياسي، وسنجد أن ممارسة الدول للعدوان ضد الآخرين لا تجعلها موصومةً بالعار في كل الحالات.
مفارقات على طريق الإحصاءات
سنستهل حديثنا بلغة الأرقام، وذلك حتى تعطينا نظرةً أوّلية ثاقبة على أوجه المفارقة والمقارنة. ويجب الإشارة إلى أن ما سنسرده من أرقام الآن يقارن بين حرب مستمرةٍ منذ عامين وأخرى بدأت قبل أقل من 5 أشهر. وربما تظن مع هذا التباين في المدة الزمنية بين الحربين أن الكفة ستميل لصالح الحرب الأطول عمراً، لكن وللمفارقة، وفقاً لإحصاءات، أسفر الغزو الروسي لأوكرانيا عن مقتل 10,582 مدنياً أوكرانياً على الأقل، وإصابة 19,875 آخرين خلال عامين من عمر الحرب.
بينما على الجانب المقابل، تسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مقتل أكثر من 30,320 فلسطينياً وإصابة 69,616 آخرين منذ بداية الحرب وحتى يومنا هذا. وبحسب تحليل الوفيات الذي أجراه الأستاذان مايكل سباغات ودانيال سيلفرمان لإحصاءات وزارة الصحة في غزة، فقد شكل النساء والأطفال الأقل من 14 عاماً وكبار السن الذين تجاوزوا الـ60 عاماً نسبة 64.7% من إجمالي الوفيات في غزة. وهذا يعني أن عدد الوفيات من المدنيين الفلسطينيين خلال 4 أشهر ونصف تقريباً يتجاوز 19,095 شخصاً على الأقل، أي قرابة ضعف الوفيات من المدنيين الأوكرانيين على مدار عامين كاملين.
مفارقات الكيانات "الرسمية" ضد الجماعات "الإرهابية"
خرج مسؤولو الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب ليصفوا الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، على حد تعبير وزير دفاع الاحتلال شخصياً. بينما طالب وزير في الحكومة ونائبة في الكنيست بإسقاط قنبلة نووية على سكان غزة.
ولم تتورع قوات الاحتلال عن اعتقال المدنيين في غزة، وتجريدهم من ثيابهم، وتعذيبهم، وحتى اغتصابهم كما تبين من الشهادات مؤخراً. لكن تلك الأفعال لم تلقَ أي استنكار من الحكومات ووسائل الإعلام الغربية. وعلى الجانب المقابل، أظهرت حركة المقاومة حماس والتي تصنفها الولايات المتحدة "إرهابية" عدالة قضيتها حين سلّمت أسرى الاحتلال في صحةٍ جيدة، ليخرج الأوائل منهم قائلين إنهم تلقوا معاملةً حسنة، قبل منع البقية من الإدلاء بالتصريحات لاحقاً.
بينما جيّش الغرب موارده لدعم الاحتلال بالسلاح والعتاد منذ اليوم الأول. لكن بمجرد أن هبّ الحوثيون في اليمن للدفاع عن غزة وأعلنوا منع عبور أي سفن إسرائيلية حتى وقف العدوان، سارعت الولايات المتحدة لتصنيفهم كجماعة إرهابية هي الأخرى. لكن لم يصنف أحد الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب، رغم أنها أرسلت لإسرائيل التي ترتكب إبادة جماعية علنية مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات!
مفارقات إعلامية بين الانحياز والمهنية
قامت الدنيا ولم تقعد عندما بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا، التي كانت في الأصل جزءاً من الاتحاد السوفييتي وتحتوي على مناطق ناطقة بالروسية. لكننا لسنا هنا لتبرير العدوان أياً كانت مُسوِّغاته. وانتفض الإعلام الغربي لدعم الرواية الأوكرانية، وتجيّشت المنصات الأمريكية والأوروبية بإعلاميين يجهشون بالبكاء على ما أصاب أبناء العرق الأبيض في أقاصي شرق أوروبا. ولعبت الصحافة والإعلام في هذه الحرب دورها المنوط بها، حين نهضت تحاول التصدي للاعتداء والظلم ووقفت في صف الطرف المستضعف.
وبتسريع شريط الأحداث وصولاً إلى الحرب الدائرة في قطاع غزة اليوم، سنجد أن الإعلام الغربي في استخدامٍ دقيقٍ للغة يعكس أعمق مستويات الانحياز وعدم الحياد، إذ أخرج مكنونات صدره وكشف لنا عن أسوأ خصاله، فاكتشفنا في الأسابيع القليلة الماضية في عناوين الصحف والبرامج أن أبناء الاحتلال الإسرائيلي "تذبحهم حماس"، أما عن الفلسطينيين فهم "يُقتلون" ببساطة دون جناة. وتبيّن أن أسرى الاحتلال يُوصفون بـ"الأطفال" في الصحف، أما أبناء غزة الأسرى في سجون الاحتلال فهم مجرد "قاصرين" على حد وصف الصحف نفسها.
أما المفارقة الأكبر فتمثّلت في حملات الهسبرة الإسرائيلية الضخمة التي وصلت أصداؤها إلى شبكات عالمية مثل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، عندما نشرت الأخيرة تقاريرها عن بناء حماس للأنفاق أسفل المستشفيات والمدارس، وذلك قبل يومٍ واحد من قصف الطيران الحربي الإسرائيلي لساحة مستشفى المعمداني، في جريمة حرب أسفرت عن مقتل مئات النازحين في دقيقة واحدة. وكانت واقعة المعمداني مجرد تمهيد لاقتحام المستشفيات بعدها، وقتل بعض المصابين داخلها واعتقال الأطباء، ثم طرد النازحين منها بالقوة.
وبرّر الإعلام الإسرائيلي والغربي كل تلك الجرائم بحجة أن حماس لا تراعي حرمة المستشفيات في غزة. فهل انتفضت وسائل الإعلام تلك حين تنكّر أفراد القوات الخاصة الإسرائيلية في ثياب مدنيين واقتحموا مستشفى ابن سينا لقتل 3 فلسطينيين بمدينة جنين، التي تقع في الضفة الغربية بعيداً عن غزة ونفوذ حماس؟ بالطبع لا.
تحوُّل النظرة الشعبية
ورغم كل هذا التدليس والحشد لصالح الاحتلال، مازالت نظرة شعوب الغرب لما يحدث في الشرق الأوسط لا تتماشى تماماً مع رؤية الحكومات الغربية للصراع. ويتجلّى خير دليل على ذلك في التظاهرات الحاشدة التي اجتاحت عواصم الولايات المتحدة وأوروبا دعماً لفلسطين واحتجاجاً ضد العدوان الإسرائيلي. ومن المفارقات هنا أن الاحتجاجات لا تزال مستمرةً من آن لآخر في مدن الغرب، بينما توقفت بشكلٍ شبه كامل داخل الدول العربية والإسلامية اليوم.
وحتى عندما قررت الحكومات الغربية وقف دعمها لوكالة الأونروا، إمعاناً منها في حصار وتجويع الفلسطينيين ليرضوا بالتهجير من غزة، خرجت مبادرات شعبية لجمع الأموال لصالح الوكالة الأممية. وجاءت إحدى المبادرات من الموظفين العاملين داخل الكونغرس، في رسالةٍ تحدٍ للسياسة الأمريكية من داخل مؤسساتها الرسمية.
وربما تنحاز غالبية حكومات دول الغرب إلى صف الاحتلال بكل وضوح، لكن ضمائر شعوبها بدأت تستفيق اليوم. إذ كانت فجاجة ووحشية العدوان الإسرائيلي كافيةً لفضح حقيقة الاحتلال الغاصب على رؤوس الأشهاد، لدرجة أنهم خسروا الكثير في معركة الدعاية التي لطالما كانت ملعبهم الأساسي.
ومن المؤكد أن إعلام وحكومات الغرب التي لم تتعاطف مع ضحايا الشرق الأوسط قدر تعاطفها مع ضحايا شرق أوروبا، أصبحت اليوم في موقف حرجٍ أمام قطاعٍ عريض من شعوبها التي رأت المجازر بأم عينيها على الهواء مباشرةً. وهذا القدر من التغيير سيكون له الأثر الكبير في صراعات المستقبل العسكرية والفكرية على حدٍ سواء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.