لطالما تأسَّس الاحتلال الإسرائيلي، ونشأ على أساطير وخرافات دينية بهدف التضليل وتشويه الوقائع والحقائق، واختلفت الحركة الصهيونية كذبتها الكبيرة عن إنكار وجود شعب فلسطين، وفق مقولة "فلسطين أرض بلا شعب"، واحتاج هذا الادعاء الكاذب إلى طمس تاريخ وهوية الشعب الفلسطيني المتمسك بوطنه وأرضه وإرث آبائه وأجداده.
ترتكز إسرائيل وإعلامها على التدليس وترويج الأكاذيب ليدعم بها سياسته العدوانية العنصرية، ولما فشل الاحتلال وداعميها من القوى الاستعمارية في محاولات طمس الهوية الوطنية لشعب فلسطين، بدأت ببث الشك حول حق الفلسطينيين في أرضهم، وتشويه الحقيقة، وتشويش الفهم التاريخي للصراع، لتتمكن إسرائيل من التهرّب من المسؤولية عن أفعالها من الجرائم والمجازر وحرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، وخداع الرأي العام العالمي بشتى الوسائل.
يرى مراقبون أن مساعي الاحتلال في تضليل الرأي العام ليست وليدة العدوان الهمجي على قطاع غزة، بل بدأت جهود التضليل بالتوازي مع احتلال فلسطين عام 1948، حيث يعمل الاحتلال منذ عقود، على إخفاء جرائمه وتلميع صورته أمام الرأي العام، فمنذ اليوم الأول في عدوانه على قطاع غزة، يردد الاحتلال الأكاذيب بخصوص الأهداف الأساسية لهذا العدوان الغاشم، متسلحاً بدعم غربي يؤيد الرواية والسردية الإسرائيلية في حقها بالدفاع عن نفسها، والقضاء على حركة "حماس"، والثأر من رجال فصائل المقاومة الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، اعتمدت قوات الاحتلال على استراتيجيات التزييف والتضليل، بالإضافة إلى استخدام أساليب الدعاية لتبرير عملياتها التي ترقى إلى حرب إبادة جماعية. استندت هذه القوات إلى مجموعة من الادعاءات الكاذبة التي تكشف زيفها تباعاً، في ظل استمرار هجومها العنيف ضد قطاع غزة. هذا العدوان يحظى بدعم وتغطية من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، شاملاً الدعم العسكري، المالي، والإعلامي، مما يمثل أحد أبرز مظاهر ازدواجية المعايير في العالم المعاصر.
ربما كان يفلت الاحتلال من مجازره التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني قبل أعوام عدة، وفق ما أكدته "هيومن رايتس ووتش"، إلا أن الحال تغير كثيراً بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، في ظل انتشار وسائل التواصل التي تتحكم في دفتها الشعوب بعيداً عن التحريف والتزييف، رغم تداول الاحتلال وداعميه كماً هائلاً من الصور ومقاطع الفيديو المفبركة منذ الأيام الأولى للعدوان، بهدف خداع أكبر عدد من الناس وإنفاقهم ملايين الدولارات لإنشاء الجيوش الإلكترونية لتضليل الرأي العام، فإن وسم "فلسطين حرة" حصد خلال أيام فقط، أكثر من 7 ملايين مشاركة مقابل 250 ألف مشاركة داعمة للاحتلال، التي بات يعاني عزلة دولية.
محاولات كسب تعاطف الجماهير باتت بلا جدوى بعد ترسخ الصورة الأولية الزائفة التي طرحها الاحتلال وآلته الإعلامية، والتي ادعت زوراً أن حركة "حماس" قامت بقطع رؤوس 40 طفلاً. وتفاقم الوضع بنشر نتنياهو لصورة لجثة محترقة، زعم أنها لطفل قتله مقاتلو "القسام"، ليتبين لاحقاً أن الصورة كانت لكلب في عيادة بيطرية، تم تعديلها بالذكاء الاصطناعي.
كل هذه الأكاذيب لم تصمد، إذ تم فضحها في ظل تصاعد الغضب العالمي ضد المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة، ونتيجة للفشل في حرب المعلومات والسرديات، يظهر يأس الاحتلال اليوم بشكل بارز وهو ما يوضح ولجوئه إلى الفبركة.
ورغم ذلك، حاول الاحتلال أن يتمادى في هذه المحاولات اليائسة بتعيين "أفيف كوخافي"، رئيس الأركان السابق، لقيادة جهود الدعاية لكنه لم يغير من الوضع، إذ إن المشاهد المروعة للدمار والموت في غزة أكبر من أن تدلس، بل زادت الحنق وعمقت من الاستياء العالمي الشعبي تجاه تصرفات الاحتلال وجرائمه المتواصلة ضد المدنيين وتدمير أساسيات الحياة في غزة.
لا يمكن إغفال السجل الطويل للاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطيني، حيث تتكشف بوضوح عبر الشواهد المتعددة على فشله في تمرير رواياته الزائفة وإدمانه على الكذب الممنهج الذي يهدف إلى إبادة أي وجود لفلسطين. هذا الكذب المفضوح يواجه بالكشف والتفنيد اليوم، والحقائق تظل واضحة وساطعة لمن يسعى وراءها.
مجازر الطحين.. الإبادة الجماعية في شكلها الجديد
لكن كل ذلك لم يمنع الاحتلال في استمرار الكذب، فـ"مجزرة الطحين"، كما باتت تُعرف، فضح تقرير صادر عن الأمم المتحدة عن مستويات مروعة من الإجرام والتضليل من قبل الاحتلال، في حين يتواصل العالم في بحثه عن الحقيقة.
روايات شهود العيان والأدلة الطبية وتأكيدات المسؤولين تجمع على أن الضحايا في مجزرة شارع الرشيد، الذين قارب عددهم على الألف، سقطوا نتيجة لأعيرة نارية مباشرة أطلقتها قوات الاحتلال. هذه الشهادات تفند الرواية الكاذبه التي حاول الاحتلال تسويقها بأن التدافع للحصول على المساعدات كان وراء هذه الكارثة الإنسانية.
الحقائق الاعترافات المأسوية لا تأتي فقط من ضمير الشهود وأخلاقيات المهنة الطبية، بل أيضاً من الصحافة العالمية، فـ"واشنطن بوست"، من خلال تحليلها المعمق لشهادات 12 من شهود العيان ومراجعة عشرات مقاطع الفيديو، أكدت على زيف الرواية الرسمية للاحتلال، مشيرة إلى استمرار التزوير الإعلامي الإسرائيلي لتغطية على الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية في قطاع غزة المحاصر.
بينما نقلت وكالة "فرانس برس" عن المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك قوله: "إن فريقاً من الأمم المتحدة زار جرحى في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وعاين عدداً كبيراً من الجروح التي كانت نتيجة أعيرة نارية"، وأضاف: "إن 200 جريح ما زالوا في هذا المستشفى من بين أكثر من 700 تم نقلهم إليه".
وقد أكد "المرصد الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان أن تحقيقاته الأولية تثبت أن عشرات الضحايا خلال استلام المساعدات الإنسانية غرب غزة في شارع الرشيد سقطوا جراء إصابتهم برصاص أطلقه جيش الاحتلال.
وأشار إلى أن الاحتلال يحاول التنصل من مسؤوليته عن الجريمة المروعة بنشر مقطع فيديو جوي مجتزأ والادعاء أن التدافع والدهس كانا سبب قتل هذا العدد الكبير من المدنيين الفلسطينيين.
أوضح أن فرقه البحثية تابعت ما حدث منذ اللحظة الأولى، ووثقت قيام دبابات الاحتلال بإطلاق النار بكثافة تجاه تجمعات المدنيين الفلسطينيين خلال محاولتهم استلام مساعدات إنسانية غربي جنوبي مدينة غزة.
أوضح من خلال عدة دلالات أهمها ما تتعلق بالتثبت من بصمة صوت الرصاص الواضحة بأنها من سلاح آلي برصاص 5.56 الذي يستخدمه جيش الاحتلال، ويمكن سماعه في المقاطع المنشورة وقت إطلاق النار بوضوح.
والدلالة الأخرى هي ما توصل إليه المرصد من أن الفيديو من الجو الذي نشره الجيش الإسرائيلي مجتزأ وتم إجراء تحريف فيه، ومع ذلك يوضح تواجد دبابتين على الأقل بالدقيقة 01:06 ويظهر وجود عدة جثث بمسار الدبابات وليس بمسار الشاحنات.
ونبّه المرصد إلى أنه يظهر بالفيديو بالدقيقة 1:06-1:28 هروب معظم الأشخاص المتواجدين باتجاه عكسي من شاحنات المساعدات، بمن في ذلك الأشخاص الذين كانوا بالأصل بعيدين عن الشاحنات، مما يعني أن مصدر الخطر كان ليس من الشاحنات ذاتها أو من التدافع حولها، بل كان آتية من مصدر آخر خارجي روع جميع الأشخاص المتواجدين القريبين من الشاحنات والبعيدين عنها.
ولفت إلى أن مقطع الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال مفبرك، ولم يظهر أي عملية دهس، وهو ما يتسق مع العديد من إفادات الضحايا بأنهم أصيبوا بأعيرة نارية في ظهورهم خلال محاولتهم الهرب من المكان.
شدد "الأورومتوسطي" على أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال التسليم بصحة ومصداقية ما ينشره جيش الاحتلال لتبرئة نفسه من الجرائم التي يرتكبها دون إمكانية فحص ما يصدر عنه من قبل جهة تحقيق خارجية مستقلة ولديها الوصول الكامل للمعلومات الموجودة لدى الجيش، وألا نكون أمام حالة عبثية بأن هذا الجيش هو الجاني والمحقق والقاضي في ذات الوقت.
لقد أصبح الخميس الماضي ذكرى مأساوية تضاف إلى تاريخ الشعب الفلسطيني المخذول من العالم، حيث كانت تنتظر أرواح بريئة في دوار النابلسي قرب شارع الرشيد شمال غرب قطاع غزة، تحتمي بأمل ضئيل، لحظة وصول شاحنات تحمل في طياتها المساعدات الإنسانية، عندها أصبحت تلك الارواح هدفاً لاستهداف الاحتلال. تلك اللحظات القاتلة أسفرت عن فقدان أرواح أكثر من 127 فلسطينياً، وإصابة ما يزيد على 760 آخرين، تاركة وراءها ألماً وخزياً يلطخ العالم.
يجب التأكيد على أن السرد الذي يروجه الاحتلال ويُعتبر أساساً لتبرير أفعاله، في حقيقة الأمر هو دليل إدانة له، كونه يظهر أن الاحتلال هو المسؤول بالأصل عن هذه الكارثة الإنسانية.
رغم ذلك نعلم أن الاحتلال سيستمر في ترديد الأساطير واختلاق الأكاذيب وتصديرها معلبة للعالم من خلال أبواق الإعلام ومراكز وصناع القرار لا سيما في الولايات المتحدة، شريكة الاحتلال، التي تساهم بترويج التبريرات للعدوان الوحشي البربري على قطاع غزة وعلى الشعب الفلسطيني، لكن كل ذلك في يوم سيتحول دليل إدانة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.