دراسة الوعي ومسألة الحياة بعد الموت

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/02 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/02 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/shutterstock

هل هناك حياة بعد الموت؟

هذا هو السؤال الذي يثير القراء في مجال العلوم اليوم، وبشكل خاص المهتمين بمجال البيولوجيا العصبية، والعلوم العصبية بشكل عام، بعدما كان يُعتقد وبشكل خاص في القرن التاسع عشر وما بعده أن العلوم ستضع حداً للدين، ولكن يبدو أن الأمر أفضى الآن إلى خلاف ما كان يُتصور وقتذاك، حيث أصبح مجال العلوم اليوم هو الذي يُقدم إجابات تشفي الغليل، سواء أكان الأمر يتعلق بدور الدين في الحياة، أو ما مدى أهميته على الصحة العقلية، أو تعلق الأمر بالتوصل إلى أدلة، دعنا نقول يقينية، فيما يخص العالم الأخروي، أو على الأقل استمرار الحياة بعد الموت.

حسب مؤلفي الكتاب الذي أثار ضجة قبل سنوات قليلة، وأقصد الكتاب الذي صدر بالفرنسية ويحمل عنوان الله: العلم، والأدلة، فجر ثورة جديدة، فإن تطور العلوم الدقيقة أو العلوم الحقة، أو العلم التجريبي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو الإلحاد، أو ظاهرة إنكار وجود خالق لهذا الكون، ومن ثم وجود مسؤول أو مدبر له، كان الانبهار بالنتائج التي حققها العلم مطلع القرن التاسع عشر مدهشاً، بل الأمر تعدّى ذلك، حيث إن المبادئ العلمية تم نقلها إلى باقي العلوم الأخرى، حيث إن ما سُمى بالوضعية كان يشمل جميع العلوم، وليس التجريبية منها فقط، ولم تسلم حتى العلوم الإنسانية من هذا الأمر، وبدون شك فإن ذلك كان خاطئاً، بل وكارثيا، وما زال يناقش إلى اليوم، لكن الأمر المخيف الذي كان في هذا الأمر هو النزعة الاختزالية، أي اختزال المعرفة عن طريق التجارب العلمية الدقيقة فقط، ومن ثم سعى الكثيرون إلى مهاجمة الدين باسم العلم، فيما آخرون شنوا هجوماً مضاداً أيضاً.

ينبغي ألَّا نغفل أن اعتماد المستشرقين للمنهج الفيلولوجي في دراسة التراث الإسلامي كان بتأثير من هذه النزعة، وكذلك مسألة ظهور علم الأديان، ومن ثم محاولة دراستها وفقاً للمنهج العلمي، كل هذا كان له تأثير سيئ على هذه الأديان، بل وفي الكثير من الأحيان أُسيء فهم هذه الأديان، ولنضرب مثالاً على ذلك بالدين الإسلامي.

بإخضاع المستشرقين الإسلام للمنهج الفيلولوجي في الدراسة، والذي يمكن أن نقول باختصار إنه هو الآخر امتداد للمنهج العلمي، الذي يقوم على محاولة التوصل للمعرفة عن طريق التجريب، أو عن طريق الحس والمشاهدة، هذا معناه إهمال مسألة الذاكرة، ومن ثم عدم الوثوق بالشفهية، بل كل تجربة إذا لم تكن قابلة للإعادة ويمكن التحقق منها تصبح لاغية، بل وتصبح خرافة، ومع ظهور التحليل النفسي أصبح من الممكن تصنيف صاحبها ضمن مرضى الهذيان، وإذا ما حاولنا استحضار الإرث الشفوي، والذي غالب الدين الإسلامي بُني عليه، خاصةً في بدايته، أصبحت تلك الفترة لاغية، بل وقابلة للتلاعب والتأويل.

ومن هنا ستظهر الإشكالية التي استمرت تُناقش إلى اليوم، وهي قضية التدوين، فالمناقشون لهذا الأمر، وهم كثر، أغلبهم لا يدرك أن هذا الأمر له ارتباط وثيق بتطور البحوث في الذاكرة في علم النفس، حيث بدأت الأبحاث في هذا المجال تقريباً في القرن التاسع عشر، ومن ثم بدأ إخضاع الذاكرة هي الأخرى للمنهج التجريبي، لتصبح محل تساؤل، ويبدأ التمييز بين الذاكرة السليمة وغير السليمة، وهل يمكن أن تكون الذاكرة غير معتمدة، بحيث يمكن أن يتوهم أمراً ويعتقد أنه صحيح إلخ. هذا النقاش انتقل إلى التجارب والمعارف التاريخية السابقة، والتي كانت تعتمد الذاكرة كمصدر مهم لها، من هنا لم تعد الذاكرة مصدراً للمعرفة، أو حتى لنقلها، بل أصبح من الواجب توفر الوثيقة المادية، وهذا ما سيبث فيه علم التاريخ.

لكن ما يهمني هنا هو كيف انعكس تطور العلم سلباً على مسألة الروحانيات بشكل عام، وعلى الأديان بشكل خاص، وربما ذلك كان مجرد سوء فهم، حيث إن العلماء حينَها كانوا منبهرين بالفتوحات الأولى التي حققها لهم العلم، قبل أن يكتشفوا أن ما أدركوه لم يكن إلا قطرة في بحر المعارف التي يمكن أن يصلها أو يدركها الإنسان، ليصبح العلماء بعد ذلك أكثر تواضعاً من سالفيهم، ومن ثم يعود الدين شيئاً فشيئاً ليتبوأ مكانه من جديد داخل المجتمعات، بل وأصبح الإنسان المعاصر يبحث عن كيفية الاستفادة منه.

لكن قبل مواصلة التحليل لا بد من التعليق على أمر مهم، دعنا نقل سواء في الجانب الإسلامي أو على الأقل في بعض المناطق منه، أو في الجانب الغربي وهو المهم، كانت تجارب الناس مع الدين سيئة، كانت قائمة في الأساس على الاستغلال، ومن هنا كان الإنسان دوماً يسعى بشتى الطرق ليتخلص من هذه الوصاية التي كانت تُفرض عليه من قِبل ممثلي الدين، وبالتالي ما إن استطاع الإنسان أن يتنفس الصعداء إبّان القرن التاسع وقبله بقليل أيضاً، حتى أعلن تمرده على الدين كليةً، وهذا ربما هو ما تعبّر عنه صرخة نيتشه "لقد مات الإله"، فهذه الصرخة كانت رفضاً لتلك الوصاية الممارسة على العقول الحرة، أكثر منها رفضاً للعالم الغيبي أو لممثل الخير المطلق وهو الله في الديانات السماوية.

اليوم يمكننا جميعاً ملاحظة ذلك، كثيرون في حاجة ماسّة إلى الدين، بل وربما لا يمكنهم العيش من دونه، لكن هاجس الوصاية عليهم يعود من جديد، وهو الذي يجعلهم يخشون اعتناق دين معين، وربما ليس هاجس الوصاية فقط، بل هاجس الخضوع لطقوس معينة أيضاً، أو الالتزام بها، بل وفي بعض الأحيان بعض القيود التي تكون سداً منيعاً بينهم وبين اعتناق دين ما، وهذا ما يذكّر بالقصة التي وقعت لشاعر عربي كان له جمل، فسمع بالنبي صلى الله عليه فذهب للقائه والإيمان به، لكن في الطريق التقاه رجل فسأله عن وجهته، فما إن أخبره بوجهته حتى بادره الآخر، وكان يعرف الشاعر جيداً، فقال له إن محمداً يُحرّم الخمر، فما كان من الشاعر سوى أن ردد: أما هذه فلا، وكان من معاقري الخمر، ولا يستطيع عنها فكاكاً، وما أكثر من يُشبهونه اليوم. وحتى لا ننسى فهناك الهاجس الأيديولوجي وهو الأقوى اليوم.

لنعُد إلى العلم والدين، فالبحوث اليوم في مجال العلوم العصبية، والبيولوجيا العصبية أيضاً، تخبرنا بالكثير عن الوعي، هذه الظاهرة الغريبة التي تخص الإنسان، لكن رغم كل البحوث التي أُنجزت في هذا الخصوص فإنها لم تستطع بعدُ حلَّ لغز الوعي، لكن المؤكد هو الظاهرة الغريبة، والتي مفادها أن الوعي يمكن أن ينفصل عن الجسد، سواء من خلال تجارب الأشخاص المقتربين من الموت، أو بعض التجارب الأخرى التي تؤكد غرابة هذا الأمر، فإذا كان الوعي منفصلاً عن الجسد الذي هو أمامنا، وجزء منه الذي هو الدماغ، والذي يعتبر الآن هو المسؤول عن عملية الوعي، فإن هذا الأمر يطرح عدة أسئلة فيما يخص الحياة والموت، فلم تعد الحياة اليوم بمجرد الولادة، ولا الموت بمجرد توقف الدماغ، بل الأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.

هناك ظاهرة غريبة أخرى، وهي مسألة الاتصال الروحي، حيث إن التجارب تُثبت أيضاً الأثر الجيد لهذا الأمر، وبالمناسبة كما يؤكد أحد المختصين في مجال البيولوجيا العصبية، فظاهرة الاتصال الروحي، والتي تُعتبر الشرائع التوحيدية واحدة من الداعين إليها، وخاصةً في الصلاة، فإنها تختلف كلياً عن بعض الأمراض الذهانية كالهلوسات وغيرها، والتي غالباً ما كان يلجأ إليها في الماضي لتفسير ظواهر الكثير من المتدينين، حيث إن هذه الظاهرة، وأقصد الاتصال الروحي، هي ظاهرة صحية، ومعناها أن الأشخاص الذين يعيشون أو يمرون بتجارب روحانية معينة فإن ذلك يورثهم طمأنينة، بعكس تجارب المرضى النفسيين الذين تكون تلك التجارب مصدر معاناة لهم، وليس مصدر اطمئنان.

كما يؤكد الكثير من الباحثين في هذا المجال، فإن هدفهم ليس اكتشاف وجود الله من عدمه، كما أن هدفهم ليس تأكيد وجود الرسائل السماوية من عدمها، لكن يمكن أن نقول إن هدفهم هو إزالة الحواجز التي وضعها بعض العلماء باسم العلم، وخاصةً تأكيدهم على عدم وجود عالم أخروي، والسعي في محاولة تأكيد نظرية التطور في مسألة ظهور الكائن الحي، ونظرية الانفجار العظيم في مسألة انبثاق الأكوان من عدمها، غير أن كل هذه اليقينيات تلاشت اليوم أمام الاكتشافات العلمية الجديدة.

لكن لا بد من أن نؤكد أن دور إثبات ذلك من عدمه إذا لم يكن مهمة علماء الأعصاب، فإنه يقع بدون شك على مسؤولية الممثلين للأديان، أو على الأقل الذين ينتمون لها أو يؤمنون بها، فبدلاً من التشبث بما أنجزه العلماء القدماء، والذي أصبح اليوم من ضمن التراث، فإن الحاجة ماسة اليوم إلى تطعيم هذه المعارف بالمعارف الجديدة في العلم، وليس بالضرورة أن يكون بالطريقة الساذجة التي يسلكها البعض، أو طريقة الترقيع، بل عن طريق البحث العلمي الجاد، وغير المتحيز لأي أيديولوجية مهما كانت أهدافها، بل يكون الغرض هو خدمة الحقيقة، أو لنقُل على الأقل خدمة الصالح العام، أو الدفاع عن الخير، ومحاربة خفافيش الظلام الذين يقومون بدور الأشرار في العالم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سفيان الغانمي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد