إن أعظم ما في شهر رمضان هو اقتران العبادات فيه بالأعمال، وهما يجتمعان في القيمة الروحية والتعبدية والممارسة الإيمانية الخالصة، التي لا يجزي عليها إلا الله وحده. فالعمل لغة أهل القرآن، وهو جزء من الإيمان، فلا نجد آية فيها عمل إلا ويتبعها أو يوافقها مفهوم الإيمان بالله كقوله تعالى: "وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ" (البقرة: 25).
وأعظم ما اقترن به شهر رمضان المبارك أن القرآن الكريم نزل فيه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، والمقصود بالنزول هنا هو نزوله الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وذلك كان في ليلة واحدة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، وهي ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وتحدّث المولى عزّ وجلّ في كتابه عن عظمة القرآن الكريم، ومن خلال آياته الحكيمة نبيّن هذه العظمة من خلال مقالين متتاليين.
فقراءة القرآن هي التجارة الرابحة، وذلك في جميع الدُّهور، وعلى مدى الأيام والشهور، لكن لها في رمضان شأن أعظم وأأكد؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانت تزيد عنايته بالقرآن في رمضان.
وقد منّ الله على المسلمين بتفضيل بعض الأوقات على غيرها، وبدعوتهم فيها للتقرّب منه والتزلّف إليه، تهذيباً لنفوسهم، وتطهيراً لقلوبهم، فيبقى العبد طاهرَ القلب نقيَّ النفس فينال أعظم غاية؛ رضا الله والفوز بمحبته، كما جاء عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان"، قالوا صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد".
في الصيـام حِكـم وفوائـد كثـيرة، مدارهـا عـلى التقـوى، فالصيـام يـؤدي إلى قهـر الشـيطان، وكـسر الشـهوة، وحفـظ الجـوارح، ويـربي الإرادة عـلى اجتنـاب الهـوى، وفيه كذلك اعتياد النظام، ودقة المواعيد. ولهذه الغاية العظمى جعل الله في كل وقت فرصةَ زيادة تقرب من عباده إليه، فآخر الليل هو خير اليوم، ويوم الجمعة خير أيام الأسبوع، وفي السنة جعل شهر رمضان خير الشهور؛ فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي العمر كله حج بيته، فمن حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه، وفي رمضان جعل خيره آخره، وجعل فيه خير الليالي على الإطلاق وهي ليلة القدر، وتأكيداً على قدْر تزكية النفوس في العبادات التي شرعها الله تعالى، نرى أنَّ الله سبحانه جعل الغاية الكبرى من الصيام (التقوى)، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
"وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام".
إنّ الذي يلتزم بالصيام ويعمل بمقاصده وغاياته تتهذّب وتتجمل أخلاقه، ويحسن سلوكه، وكذلك المجتمع تتغير منظومة أخلاقه من السيئ إلى الحسن، وبالتالي تتحقق الغاية المرجوة (التقوى)، والمتأمل في فريضة الصوم يجد أنها ذات صلة كبيرة بكل القيم والأخلاق الجميلة والحسنة، كالإيثار، والإنصاف، والتسامح، وحسن الظن، والحلم والحياء والرضا… فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نستغني عن هذه الأخلاق ما دمنا نصوم لله تعالى، امتثالاً لأمره وتأسياً واقتداءً برسوله ﷺ، بل إن الصيام فرضه الله ليرسّخ هذه الأخلاق في نفوس الصائمين، ويحوّلها فيما بعد إلى سلوك ممارَس في حياتنا وعلاقتنا، فلا قيمة لصوم دون خلق الحياء والإيثار والإنصاف والتسامح والرضا.
لم تكن في لحظة غاية الصيام تجويع الصائمين وحرمانهم مما أباح الله لهم بمعزل عن القيم النفسية والروحية والاجتماعية، بل إن تهذيب الإنسان عقله وخلقه وسلوكه ونظرته للحياة هو المقدم على كل المقاصد والغايات، من هنا حق لنا أن نقول إن فريضة الصوم من أعظم فرائض الدين وعبادته، وعلى مستوى كل الشرائع؛ الإسلام وما سبقه.
نحن بحاجة لصوم لا نجوع فيه ونعطش فقط، وإنما نحن بحاجة لصوم نهذب به أخلاقنا، فلا يغش ويسرق البائعُ الناسَ، ولا يخون السياسي شعبه، ولا يتطاول المسؤول على من هم دونه من الناس، ولا يخون مَن حمل أمانةً ما، ولا يقصر موظف في أداء وظيفته وعمله.
نحن بحاجة إلى صوم يهذّب أخلاقنا: الأخ مع أخيه، والجار مع جاره، والزوج من زوجته، والكبير مع الصغير، والغني مع الفقير، وأن نرحم اليتيم والأرملة وذوي الحاجة، وهنا نكون قد حققنا غاية ومقصد الصوم الذي فرضه الله علينا، ودعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو استفضنا في الحديث عن الشهر المبارك لَما وسعتنا مجلدات عنه، وفي خاتمة هذا الحديث نسأل الله أن يُعيننا في هذا الشهر على الصيام والقيام، وأن يفقّهنا معانيه وأسراره، وأن يجعله شهر ارتقاء وتغيير للأفضل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.