في السادس والعشرين من يناير 2024، استيقظت جماهير نادي ليفربول على خبرٍ صاعقٍ بإعلان المدرب، يورغن كلوب، اعتزامه الرحيل عن النادي بنهاية الموسم الحالي، وخلوده لفترة راحةٍ قد تطول أو تقصر؛ لكنها بالتأكيد لن تقلّ عن سنة كاملة بلا تدريب.
يقظةٌ أطاحت بالأحلام التي نسجها جمهور الريدز لمرحلة إعادة البناء تحت إمرة المدرب الألماني عقب موسمٍ كارثي، والسبب؟
لقد شعر السيّد "يورغن" أن طاقته بدأت تنفد.
ليس الأمر بسيطاً، كما يبدو، فكلوب هو أحد مدربيْن اثنين يشغلان واجهة البريميرليغ، الثاني -بالطبع- هو بيب غوارديولا. ولكنَّ هذين الاسمين حصراً لهما حصانةٌ لها وجاهة، تجعلهما منيعين ضد الإقصاء أو الإقالة مهما قدما من فترات سيئة.
ولكن، ماذا عن بقية المدربين؟ كيف يجابهون تلك الضغوط؟ وكيف يحاربون شبح الإقالة في بيئات عملٍ كهذه؟
واحة الألغام
بالطبع تبدو مهنة التدريب مغريةً، خصوصاً في الفرق الكبرى التي تنشط في مستويات تنافس عالية. الرفاهية، التحكم، الأضواء، والأموال… الكثير من الأموال.
لكنها تبدو عن كثبٍ كمن يمرُّ بواحة خضراء يقطعها جدول ماءٍ رائق، لكن ما إن يخطو فيها خطوته الأولى، حتى يفاجأ بحقل ألغامٍ وأفاعٍ. يجب أن يتعايش معها، ويحذر منها في كل خطوة، ولينعم بالجنة الخضراء كما يشاء إن استطاع لذلك سبيلاً!
أضخم تلك الألغام ما يطلق عليه "Chronic job insecurity" القلق الدائم من فقد الوظيفة. وهو لغم مؤرِّق قلّما تجده في الوظائف العادية، التي يمكن اتقاءُ الطرد منها باتباع اللوائح والقوانين والعمل الدؤوب. وعلى نفس المستوى من الوظائف التي يحصّل أصحابها راتباً مليونياً في كبرى الشركات، فإن قرار الاستغناء عنهم لن يكون بتلك البساطة والسرعة، وإنما يحتاج مداولاتٍ ومناقشات تستغرق الكثير من الوقت.
وذلك القلق نتيجة منطقية لحالة عدم الوضوح في سياسات كثير من الأندية فيما يخص الهوية وطريقة الإدارة، وكذلك المتطلبات غير العقلانية التي تلقي بثقل المسؤولية كلها على كاهل المدرب.
وبالطبع هناك الضجر وقلة الصبر، سواء من ناحية الجماهير أو من ناحية الإدارة نفسها. فلا يكاد المدرب يمسك زمام الفريق المتهالك، حتى يُصبح مطالباً بإثبات جدارةٍ لحظيّة، وتحويل اللاعبين المتهالكين أنفسهم إلى وحوش فتّاكةٍ في لمح البصر، حتى وإن كانت تعوزهم المهارة والحدّة، حتى وإن كانوا أقل من المستوى المطلوب للتنافس، وكأنهم عيّنوا جنيّ مصباحٍ وليس مدرباً.
وهكذا ترفع الإدارة يدها، وتُلقي بكامل المسؤولية على المدرب الطموح، الذي يسقط فريسة طموحه الشخصي وطموح الإدارة وطموح الجماهير، وتنتهي الأمور -على الأغلب- نهايةً محبطة.
الخروج من الباب الخلفي
ولا يأتي الإحباط من الحاجة المادية على الأقل، فبعض المحللين يعدّون الإقالة المبكرة للمدربين مكافأة وليست انتكاسة على المستوى المادي. فحسبما أشارت التقارير، عندما غادر "أنتونيو كونتي" نادي تشيلسي عام 2018، حصل على مستحقات قدرت بـ26.2 مليون جنيه إسترليني، وعندما أعفي "فابيو كابيلو" من مهمة تدريب منتخب روسيا عام 2015، حصل على مستحقات قدرها 10.5 مليون جنيه إسترليني.
ولكن للأمر تداعيات صحية ونفسية أعمق..
عام 2002 وافق مدربان إنجليزيان على الخضوع لتجربة تراقب نشاط عضلة القلب وضغط الدم، وتأثير الشعور بالتوتر والضغط عليهما أثناء المباراة. لوحظ ارتفاع معدل ضربات القلب لأحدهما من 46 إلى 160 ضربة في الدقيقة. أما الآخر فقد بدأت علامة اللاانتظام في ضربات القلب في الظهور، وهي نتيجة اتفق العلماء والمدربون موضع التجربة على أنها كارثية.
ويؤكد علم النفس الرياضي دوماً على الضغوط التي تقع على عاتق المدربين، ووفقاً للدراسات التي أجريت على المدربين، فإن واحداً من كل أربعة مدربين، يقع فريسة للإعياء الشديد والاحتراق المهني في نهاية كل موسم. ويبدو أن هذا ما حدث مع "كلوب" الذي أمضى تسعة مواسم مع ليفربول، نافس فيها بكل شراسةٍ على أعلى مستوى، حتى نفدت طاقته تماماً، فقرر أن يترجّل طواعيةً.
ولكن السواد الأعظم من المدربين لا يخلعون أنفسهم من مناصبهم وإنما يتم خلعهم. وغالباً بأكثر الطرق إهانة وقسوة. وهناك قصة قصيرة حزينة لمدرب كريستال بالاس "تريفور فرانسيس"، حين استدعاه رئيس النادي ليعلمه بخبر إقالته، فظل صامتاً مصدوماً لبعض الوقت قبل أن تنفرج شفتاه عن جملة قصيرة: "ولكن اليوم هو عيد ميلادي!".
يخرج المدربون المُقالون من بابٍ ضيقٍ خلفي غير الباب الواسع الذي دخلوا منه، يقتلهم العجز والفشل وضياع حلمٍ كان ملء صحوهم ونومهم. ولا يأسى عليهم أحد، وربما في أحيان كثيرة لا يتسنى لهم أن يشرحوا أسبابهم أو أن يلقوا كلمة الوداع للاعبيهم وأصدقائهم داخل النادي.
ولا تتوقف المعاناة عند هذا الحدّ، فكثير من أولئك المدربين غرباء عن ذلك البلد، جاؤوا بتأشيرة عمل ولهم فترة سماح قصيرة حتى يعثروا على عملٍ آخر وإلا فالعودة الإجبارية من حيث جاؤوا، وربما اضطروا إلى ترك أطفالهم الذين أسسوا حياةً اجتماعية في ذلك البلد والتحقوا بمدارسه وارتبطوا بنواديه وتحقق لكثيرٍ منهم استقرارٌ كاملٌ فيه. هذا إن كانوا أكثر حظاً من أولئك الذين يسكنون بيوتاً تملكها تلك الأندية وتطالب بإخلائها عند الإقالة.
هل يمكن وصف المدرب بأنه إنسان؟
"نحن بشر، إن غرزت سكيناً في صدرنا؛ سننزف. ولكن الناس يظنون أننا أبطال خارقون، لا نشعر، لا ننزف، لا ننفعل، وهذا تصور خاطئ".
سام ألارديس، مدرب إنجليزي مشهور.
أصبحت مهنة التدريب متطلِّبةً جداً في الآونة الأخيرة، لما لحقها من ثورةٍ طالت جميع نواحي اللعبة، أضف إلى ذلك القدر العالي من التنافس والكم الضخم من الاستثمارات التي تضخ في كرة القدم، وهو ما يجعل الفرق أحرص على الفوز وأجرأ أيضاً على إقالة المدربين.
فمنذ عام 1998 حتى عام 2018، تم تعيين مدرب جديد بمعدل كل 2.4 موسم في بطولة كرة السلة الأمريكية (NBA)، وفي بطولة الهوكي الأشهر (NHL) تم تعيين مدرب جديد كل 2.6 موسم، أما في الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية (NFL)، فتطول المدة لتعيين مدرب جديد لتصبح كل 3.4 موسم. وللمفارقة، فإن الدوري الإنجليزي لكرة القدم، لم يضم وقتها سوى 7 مدربين فقط من أصل 20 مدرباً أمضوا أكثر من موسمين مع أنديتهم.
ولكن، هل يعد ذلك مبرراً للمطالبة بفصل مدرب عن عمله وسوق المبررات لتمني خروجه المذلّ من النادي الذي نشجعه؟
في أكتوبر عام 2021، وعقب الخسارة المذلة أمام الغريم الأكبر ليفربول بخمسة أهداف دون ردٍّ، في ملعب الأولدترافورد؛ ثار جمهور مانشيستر يونايتد على المدرب "سولشيار"، وطالبوا بإقالته على الفور، دون انتظارٍ لصباح يوم غد.
لم تكن المطالبات من قبيل: "حسناً، سيد سولشاير، يبدو أنك لست الشخص الكفء لتلك الوظيفة." أو "من فضلك تدبر أمورك وحاول أن تجد بديلاً في أقرب فرصة." وإنما إهانات لفظية ورسوم مسيئة ولافتات وصور وتحريضات، جاوزت حدّ النقد العادي المسموح والمكفول للجميع.
يرى "فيل نيفيل" الزميل السابق لسولشاير ومدرب نادي إنتر ميامي وقتها، أن تعامل الناس مع مهنة التدريب يختلف عن أي مهنة أخرى. فلو جربت أن تدخل أي محل عمل، وتخبر أحد العمال أنك تتمنى أن يُطرد من عمله، سيبلغ عنك الشرطة بكل تأكيد.
ولعل بزوغ نجم وسائل التواصل الاجتماعي، وحضورها الحيّ وروادها المتعصبين وتفاعلها الملتهب مع كافة الأحداث لحظة وقوعها، هو ما يجعلها أكثر سطوة من الأحاديث التي تدور في المدرجات أو الحانات عن سوء النتائج والتهامس بشأن المدربين، وأكثر قدرةً على نزع آدميتهم وإباحة مهاجمتهم كأشخاص بعيداً عن نقد ما يقدمونه في الملعب.
ومن الآمن القول إن مهنة التدريب رغم ما يكتنفها من أضرار نفسية جسيمة، إلا أنها ما زالت حلماً مشتهى لكثيرٍ ممن يمارسون اللعبة أو يفتتنون بها، كأنها الغواية التي لا فكاك منها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.