كان ياما كان، في سالف العصر والزمان، ما يزيد عن قرن من الزمان، يوجد أرض اسمها فلسطين، واليوم اسمها فلسطين، وغداً ستبقى فلسطين. فيها يعيش الفلسطينيون، أناس أمثالكم متحضرون. لديهم منازلهم وسياراتهم ومطاراتهم ومدارسهم وجامعاتهم ومسارحهم وحياة ثقافية غنية مثلكم تماماً. كان لهم أحلام مثلكم تماماً، وأطفال يودون أن يروهم كباراً مثلكم تماماً، لكن في فلسطين الأطفال لا يكبرون، عكسكم تماماً.
وفي أحد الأيام، انقضَّت على فلسطين هذه مجموعة من البرابرة المتوحشين الإرهابيين يُدعَون بالصهاينة الإسرائيليين (هاغانا وشتيرن وأرغون) وغيرهم. عاثوا في الأرض فساداً، فخربوا وأرهبوا وحرقوا وقتلوا ونهبوا الأرض وهجروا سكانها وفعلوا ما لا يقال ولا يحكى.
لم يدمروا مجتمعهم وحياتهم فحسب، بل أيضاً أحلامهم التي خبأوها في قلوبهم ذات يوم. وهناك على الجانب الآخر من البحر كان أيضاً أناس بيض البشرة زرق العيون وشقر الشعور يشربون شايهم عند الظهيرة ويدخنون الغليون، متحضرون أو هكذا يدعون. أرسلوا عبر البحار الصرخات والآهات والقرارات والصيحات: أيها البرابرة الهمجيون، كيف تجرؤون وتقتلون وتقمعون وتشردون؟
مضت الأعوام تلو الأعوام والفلسطينيون مبعثرون، ثلة هنا وحفنة هناك، هذا يقبلهم وهذا يطردهم وآخر من أبناء جلدتهم يعربد عليهم، لا لشيء إلا لأنهم فلسطينيون، فهكذا يكون حق الضيف عندهم، لكننا لا نعمم. صَبَرَ الفلسطينيون، لكنهم لم ينسوا أرضاً كانت تسمى فلسطين واليوم تسمى فلسطين وغداً ستبقى فلسطين. ورَّثوها لأبنائهم وأحفادهم. أحلامهم التي كانت في قلوبهم، في تراب الأرض وحجارتها خبأوها، في جدران منازلهم هناك في فلسطين خبأوها، علَّ الجدران تعرفهم، هؤلاء الأحفاد إن هم مروا بها. مات الأجداد ومات الآباء ولم يورِّثوا أبناءهم سوى مفتاح قديم صدئ لباب ما عاد موجوداً، لكن المفتاح مما تنأى به العصبة من الرجال.
أتذكرون هؤلاء البرابرة المتوحشين؟ من قتل أجداد هؤلاء الأحفاد والبيض المتحضرين، أتذكرونهم؟ هم نسوا هؤلاء الأحفاد يا لغبائهم! لقد كبر الأحفاد وما أدراك ما الأحفاد؟! وأعدوا العدة لجلادهم، لقد ظنوا أنهم أسكتوهم، أخرسوهم، قتلوهم، لكن هذا ما ظنوا وقدروا، فقتلوا كيف قدروا. نسي هؤلاء أنهم فلسطينيون، من الأرض ينبتون، وفيها يتجذرون، وفيها يموتون ويقبرون، ومنها يبعثون.
وفي يوم من الأيام الشديدة القتامة على الاحتلال جاء الطوفان، لا ليس طوفان نوح عليه السلام، إنه طوفان بشري، إنه طوفان الأقصى، هكذا سماه الأحفاد وكأنهم ينسلون ويتواترون لا ينقطعون، من أين يأتون؟ من غزة يأتون، من غزة!! كيف؟ أليسوا محاصرين؟ وفعلوا بهم ما لا يحكى ولا يقال؟ إنها الأيام نداولها بين الناس، رغم قمعهم وقتلهم وتهجيرهم من قبل هؤلاء لأكثر من 70 عاماً، إلا أنه كان طوفاناً من العارفين بالله، فعلوا بهم الأفاعيل وشفوا قلوب قوم مؤمنين، وعادوا إلى الديار بالخيرات محملين.
فأرعد وعربد وأزبد الأبيض عبر البحار قبل أن يفعلها محتل الديار، إرهابيون، همجيون، برابرة، قتلة أطفال، مغتصبو نساء، وفوقكم وأسفل منكم وعن يمينكم… لكنهم لا يلامون، وكيف تلوم من بنى دولته على جماجم الآخرين؟! فالطيور على أشكالها تقع. أعدوا العدة وحشدوا الجيوش واستفزوا من استطاعوا من أبيضهم وأسودهم وأحمرهم وأصفرهم، وكل أصناف البشر بصوتهم ورجلهم وخيلهم، ليجوّعوا وليقتلوا ويهجروا، فهم مخلصون لطبيعتهم، ما لكم كيف تحكمون؟!
فأمطرت السماء على غزة ناراً وجحيماً، فدكوا البيوت على رؤوس أصحابها، فأصبح الناس شهيداً يشيع شهيداً، كل ينتظر دوره، صراخ هنا وبكاء هناك ودعاء يرفع إلى السماء، ويصرخ الناس متى نصر الله، فيرد الله بكتابه (ألا إن نصر الله قريب).
الحياة غالية هنا في غزة كما الحال في كل مكان، لكنهم في غزة صابرون محتسبون، يتذكرون أجدادهم وما فعلوا، لن نغادر لن نهاجر، ردد الأحفاد، نموت وندفن ونعود وننبت من جديد، هل نسيتم؟! لسان حالهم يقول: لقد كان اسمها فلسطين، واليوم اسمها فلسطين، وغداً ستبقى فلسطين، فيها نحيا وفيها نموت ومنها نبعث تارة أخرى.
في غزة البقاء على قيد الحياة مسعى صعب، فإن كنت تريد العيش لا تبقَ في منزلك ولا تخرج منه، إن كنت تريد الحياة اخرج إلى الطريق ولا تبقَ فيه، إن كنت تريد الحياة اذهب إلى المدرسة أو المستشفى أو الكنيسة أو المخبز لكنك ستقصف، وإن كنت تريد الحياة لا تبقَ وحدك ولا تبقَ مع أسرتك. في غزة، إن كنت تريد الحياة ببساطة مُتْ.
هنا في غزة يعيش الناس يوماً بيوم، لا يخططون للغد أو ما بعده، فلا حاجة لذلك، لا يدخرون مالاً، وما حاجتهم للمال!! لكنهم ينجبون وينجبون لأنهم يعلمون أن العيش في غزة رفاهية لمن يحيا خارجها ليس فيها، ينجبون ليعوضوا من ماتوا وسيموتون. فالموت في غزة طريقة حياة، فهم غزيون، فلسطينيون، من بلد كان اسمها فلسطين، واليوم اسمها فلسطين، وغداً ستبقى فلسطين.
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ).
صبراً غزة؛ فإن النصر صبر ساعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.