تحتل مقبرة العالية، الواقعة بين بلديتي الحراش وباب الزوار، وهما من أكبر أحياء الجزائر العاصمة، حيزاً كبيراً، في المخيال الشعبي الجزائري، كما لو أنها أحب مقبرة للأموات والأحياء على حدٍّ سواء، إذ تضم قبورها الرخامية المرصوفة بعناية تحت أكاليل الورد والأشجار الوارفة، رفات شهداء الثورة، وكبار قادتها، كما تضم زعماء تاريخيين. شيئاً فشيئاً تحوّلت تلك الجبانة الجمهورية، التي كانت مخصصة لعامة الناس، إلى مكان مبجّل يحتفي بعظام الرؤساء والوزراء وكبار جنرالات الجيش.
إلى وقت قريب جداً، كان عامة الناس يعتقدون أن العالية حيُّ من أحياء العاصمة، قبل أن يكتشفوا أنها اسم لامرأة عالية المقام، حباها الله لتكون خلف مقابر الزعماء، فوراء كل رجل عظيم امرأة.
1/ العالية حمزة سلسيلة قبيلة أولاد نايل
وُلدت عالية حمزة حوالي العام 1886، بمنطقة سور الغزلان بمحافظة البويرة حالياً، شرقي الجزائر، من أبوين هما محمد بوترعة وفطيمة شعبان، وهي تنتمي في الأصل إلى قبيلة أولاد نائل، التي تمتد ربوعها من الحدود التونسية شرقاً حتى وهران غرباً، ومن منطقة الحضنة وسط البلاد إلى تخوم الصحراء، وهي واحدة من أكبر القبائل في شمال أفريقيا، وتُنسب هذه القبيلة إلى محمد بن عبد الله بن محمد الخرشفي، وقد هاجر أجدادهم الأوائل إلى المغرب الكبير زمن الخلافة العباسية، في عهد جعفر المنصور، أما نائل فقد وُلد نهاية القرن الخامس عشر في فقيق بالمغرب الأقصى، قبل أن ينتقل إلى المغرب الأوسط – الجزائر-، حيث درس الفقه المالكي في زاوية الشيخ بن أحمد الراشدي الملياني المنسوب لمدينة مليانة الجزائرية، قبل أن يطيب له المقام في وادي الشعير قرب بوسعادة، ويتوفاه الله بمنطقة عين الحجل أين ضرب له ضريح هناك.
واستوطن أولاد نائل مناطق رئيسة مثل المسيلة وبوسعادة والجلفة وسيدي عيسى قبل أن يسيحوا شمالاً حتى سور الغزلان، وُلدت العالية حمزة في أسرة غنية، فقد كان أبوها تاجراً جائلاً، حقق ثروة كبيرة استطاع أن يشتري بها أملاكاً وعقارات كثيرة، فعاشت، حياة رافهة مثل الملكات، فقد كانت ترتدي أفخر الثياب وتتزين بالحلي المتلألئة وتضع كما قريناتها المنتميات للقبيلة "الجبين" وهو طقم من حلي الفضة، مزدان بريشة فوق ناصية الرأس، إلا أن ترفها الظاهر لم يكن ليخفي في الأصل معدنها النبيل، فقد كانت قريبة من الله، قريبة من الناس.
2/ العالية حمزة أمّ الفقراء واليتامى.. بلا بنين
ورثت العالية حمزة، بعد وفاة والدها، ثروة كبيرة وأموالاً طائلة، الراجح أنها من عوائد العقارات التي ملكها والدها في ربوع كثيرة، ولزهدها الكبير في الحياة، سرعان ما راحت تنفق على الفقراء واليتامى، وتقيم لهم الولائم وتوفر لهم الإيواء، في بيتها بسور الغزلان وغيرها من المناطق، حتى لُقبت تلك الغنية بأم الفقراء، جراء ما كانت تقوم به من ذبح المواشي وتوزيعها على المحرومين الذين كانوا يحيَون حياة عادمة في ظل الظروف الاجتماعية البائسة زمن الاستعمار والمجاعات، التي استفحلت خلال الحرب العالمية الأولى، وقبلها بسنوات قليلة تعرفت على رجل يُدعى محمد كرميش، كان مدرساً للغة العربية بالجزائر العاصمة التي كانت تزورها من حين إلى آخر فتزوجته، غير أنها لم تنجب بعدما اتضح أنها امرأة عاقر شاء لها القدر، لحكمة خفية، أن تُحرم من نعمة الأمومة وشهوة الأولاد.
3/ مقبرة للأموات ومدرسة للبنات
قررت العام 1928 أن تحج رفقة والدتها فطيمة، فزارت إمام مسجد لتستخيره عن عمل خير تمهد به زيارة بيت الله الحرام، فطلب منها أن تتصدق بوقف ما، ولعلمه بأملاكها أشار عليها أن توقف هبة من أراضٍ تملكها، فقررت أن تتبرع بقطعة أرض مساحتها 800.000 متر مربع كانت اشترتها من معمر فرنسي بين الحراش وباب الزوار، وقفاً في سبيل الله، لتحل به أزمة ناشبة تخص اضمحلال أراضٍ مخصصة لدفن أموات المسلمين، على أن تتولى السلطات الفرنسية تخصيصها مقبرة لهم، شريطة أن تُسمى باسمها، تعويضاً لها ربما عن انقطاع خلفها. يقول قويدر حمزة، ابن شقيقها، في تحقيق تلفزيوني لقناة الشروق نيوز، التي نبشت في سيرتها بطريقة موثقة، ما يلي "كانت لها أملاك كثيرة، في الجزائر وسور الغزلان والبويرة والبليدة وسيدي عيسى، وبوفاريك وعين بسام، نصحها إمام بالتصدق فاجتزأت هذه القطعة الكبيرة مدفناً للمسلمين، كما أن قطعة الأرض الكبيرة التي بني فوقها الفندق الشهير سان جورج، فندق الجزائر حالياً، كانت من أملاكها".
حملت مع عودتها من بيت الله الحرام كثيراً من الحزن، إذ توفيت والدتها أثناء الحج، ما اضطرها إلى دفنها هناك بجوار قبر النبي محمد "ص"، لكنها انتوت صدقة أخرى على روحها الغائبة، إذ سارعت فور رجوعها إلى منح المال لمدرس لغة عربية بالعاصمة، طالبة منه أن يفتتح مدرسة لتعليم البنات، فأسست أول مدرسة قرآنية بمدينة سيدي عيسى، شارعة أبواب التعليم للفتيات الراغبات في التعلم، مع تكفلها التام بجميع المصاريف.
4/ زعماء وأبطال وفنانون ينامون هنا
توفيت العام 1932 في ظرف غامض، فتضاربت الأنباء في سبب وفاتها، حتى قيل إنها ماتت مسمومة برغبة بعض القريبين منها في الاستئثار بأملاكها، بيد أنها لم تُدفن في المقبرة التي وهبتها اسمها، بل في مقبرة موطنها سور الغزلان، وعلى قبرها كتب الناس هذه الجملة "هنا ترقد الولية الصالحة العالية حمزة". ماتت العالية حمزة، لكن مقبرتها ما فتئت تكبر وتشتهر يوماً إثر آخر، فبعد استقلال الجزائر بقليل، أُنشئ بها مربع الشهداء الذي ووري فيها أبطال الثورة، مثل بطل معركة الجزائر العربي بن مهيدي، كما استقبلت العام 1966 موكباً رسمياً وشعبياً مهيباً للأمير عبد القادر الجزائري، مؤسس الدولة الحديثة، الذي نُقلت رفاته من دمشق إلى بلده الأصلي باتفاق بين الرئيسين هواري بومدين والحكومة السورية، ثم لاحقاً سيوارى الرئيس هواري بومدين بترابها، بصفته زعيماً وطنياً وقومياً، ويتبعه رؤساء كثيرون هم أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد وعلي كافي ومحمد بوضياف وآخرهم عبد العزيز بوتفليقة شهر سبتمبر 2021. وتكريماً لمسار الفنانة الكبيرة وردة فتوكي، الشهيرة باسم وردة الجزائرية، فقد تم دفنها بهذه المقبرة شهر مايو 2012، كما ووري بترابها قادة الجيش الكبار وآخرهم رئيس الأركان الفريق أحمد قائد صالح والجنرال وزير الدفاع الأسبق خالد نزار. لا بل إن الرئيس عبد المجيد تبون، فضّل في غمرة استعادة جماجم ورفات 24 شهيداً من أبطال المقاومات الشعبية من متاحف فرنسا اختيار محطتهم الأبدية فيها، إلى جوار فاطمة نسومر، بطلة المقاومة الشعبية بمنطقة القبائل التي قبرت هنا، وكان بينهم رفات هؤلاء الأبطال زعماء كبار هم الشيخ بوزيان، أحد أعوان الأمير عبد القادر، والشيخ شريف بوبغلة وقويدر تيطراوي، وموسى بن الحسن الدرقاوي الدمياطي المصري.
اليوم، تأوي هذه المقبرة أكثر من 250.000 قبر، أي ربع مليون جدث، وتلك الصدقة الجارية تعدى أثرها أموات المسلمين، إلى بشر من ديانات أُخر، فقد خصص جزء منها لدفن الجنود الفرنسيين المسيحيين، والجنود الأمريكيون والبريطانيون الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الثانية، ثم جُعل جزء منها، لدفن العمال الصينيين الذين نفذوا بدءاً من العام 2000 حتى 2020، مشاريع تنموية كبرى مثل مطار الجزائر الدولي والمسجد الأعظم بمنارته الأكبر في العالم، ومحاور كبيرة من الطريق السيار شرق غرب الممتد على طول 1200 كلم، ودار الأوبرا وعدة ملاعب كبرى.
كما لو أن الله الذي حرم هذه المرأة النبيلة الصالحة من نعمة الإنجاب والخلفة، قرر أن يعوضها بذكر حسن مستمر للأبد، لدى الناس، عابر لأبناء ديانات أخرى. فمن عادة العابرين الترحم على الموتى النائمين في مقابرهم، لكن المارين بمحاذاة مدينة الأموات هذه يترحمون على الموتى وصاحبة المقبرة، التي دُفنت حية في تاريخ البلاد وذاكرة الناس.
لم يخطئ الفيلسوف الفرنسي الشهير، جون دوميرسون، حين ترك جملة بديعة تلخص أجمل طريقة لتأبيد الأموات عندما كتب: "القبر الحقيقي للغائبين هو قلوب الأحياء".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.