بعض الفرص تستثمر كما ينبغي، والأخرى تفلت وتضيع، وغيرها يمنح، والآخر يصنع!
هكذا هي حركة التاريخ، ليست متوقفة ولا جامدة، بل هي تمنح الإنسان (فرداً أو جماعات) الفرصة لصياغة أحداثه وكتابتها وحمايتها من التزوير والتلاعب.
ولا يختلف اثنان على أن يوم 7 أكتوبر 2023 ثبّت موقعه بين الأحداث التاريخية المؤثرة، واللحظات المصيرية التي تتجاوز معناها الظاهري العام إلى انعكاساتها وامتداداتها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، فالعالم بعده ـ وباختصار وتركيز ـ ليس مثل قبله!
ولعل النقطة الأكثر أهمية وسط مراجعة مسار ما حصل هو كيفية توظيف طوفان الأقصى لصالح مستقبل أكثر فاعلية وتاريخٍ ناصع البياض يدون هذه المرحلة الاستثنائية، ليس فيما يخص قضية فلسطين فحسب وإنما حتى فيما يتعلق بواقع الأمة العربية والإسلامية جمعاء.
فليس من المبالغة القول إننا اليوم على أعتاب قرن جديد يعاد فيه ترتيب أجزاء النظام العالمي، وترسم فيه خرائط الفاعلية والتأثير مرة أخرى وفق قواعد ومعانٍ مغايرة.
فإذا كان القرن الماضي جعل العرب والمسلمين يقبعون في موقع متأخر بين الأمم الأخرى وحولهم إلى أداة بيد المشاريع الخارجية المختلفة، وأصابهم بالهوان ليكونوا مستسلمين لخطط الخضوع التام تحت عناوين متعددة وخادعة، فإن الطوفان الذي يصنعه أهل غزة من الممكن أن يمحو كل تلك الآثار، ويعيد ترتيب المواقع بشكل أكثر قوة وجدوى، ولكن أيضاً وفق شروط التمكين المطلوبة.. فأهل فلسطين أنجزوا ما عليهم وزيادة وهم بانتظار مبادرة الآخرين.
ومع أن تجربة حركة حماس التي تثير الانتباه اليوم إلى عدم انتظار الأنظمة الرسمية لإحداث ذلك التغيير كونها أحد أشكال الهوان وسبباً رئيسياً فيه، فإن النقطة الأبرز المتاحة للجميع هي (الاستدراك) والسير المتبصر نحو حالة الوعي المنشودة، والتي يمكن أن يملك بها العديد مفاتيح الخلاص، ولا سيما مع النجاح في إحداث متغير نوعي بالمواقف الدولية على مستويات التعاطف والمساندة من جهة، واستشعار الشعوب لقيمة دورهم من خلال عملية المقاطعة للجهات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي الغاصب أو توظيف مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الحقيقة ولأول مرة مرة بهذا الشكل بالغ التأثير.
فماذا لو فكرنا بإعداد صفقة قرن عربية وإسلامية تنبثق من طوفان الأقصى؟!
وماذا لو رسمنا بأنفسنا صورة العالم الجديد الذي نريد؟
الأمر ليس بالمستحيل ولكنه يحتاج لأفق واسع، وعقل استراتيجي راجح، وإيمان حقيقي بالقضية، وصبر استراتيجي يقضم النتائج الواحدة تلو الأخرى وصولاً إلى استكمال حدود الوطن المحرر دون نقصان أو تخريب!
ولا أدري لماذا تذكرت وأنا أكتب هذا المقال ساحتي الأكاديمية التي أتخصص فيها وهي تاريخ الأندلس المسلمة التي مرت بالكثير من التقلبات وصولاً نحو الانحسار التام، فكأن في اللحظة تشابهاً ــ والتاريخ متشابه في جوهره ومعناه دون شك ـ بلحظة عبور أمير المرابطين يوسف بن تاشفين من المغرب لنجدة الأندلس واستعادة أمجاد الفتوحات الأولى عبر موقعة الزلاقة الخالدة في سنة 479هـ.
فمن يدقق في الأحداث، يجد تشابهاً واضحاً في حالة الضعف والانقسام الراهنة، وهيمنة القوى العالمية الكبرى، وانبثاق فرصة تلافي الأخطاء، فلما أنجزت المهمة الأولى ما كان من ابن تاشفين وهو الذي يمتلك وعياً وانتماءً إسلامياً أصيلاً إلا أن يبحث في استعادة حالة الوحدة ويحث على تأسيس حالة إسلامية عامة يساند بعضها الآخر، دون النظر إلى الاختلافات والانتماءات الفرعية، ولكنّ أنّى لملوك الطوائف الرسميين من فعل ذلك، فما كان منه إلا المبادرة لإزاحتهم عن المشهد ووضع الأندلس كلها تحت الاهتمام والإدارة المرابطية المباشرة، فأمد بذلك عمرها سنوات وسنوات، موقداً جذوة القضية التي خبت من جديد.
واليوم الحال نفس الحال، والفرصة المتاحة تتمثل في الانتقال من مستوى التفكير القطري والخاص إلى المستوى الأعم والأكبر، وهو الانتماء الإسلامي العام الذي يتجاوز خصوصيات الانتماء لصالح المرجعية الأساسية وإمكانية توظيف القدرات المبعثرة لاستعادة الدور المنشود، ولا سيما مع شدة التحدي الأكبر الذي يروم اقتلاع الهوية ومحو الانتماء.
إن طوفان الأقصى أظهر بشكل لا يقبل الشك ولا الجدال إمكانية السير نحو هدف التحرير، وتلافي النقص في أدوات التأثير بالاستعانة بالحلفاء، وإمكانية تجاوز التقاطع الداخلي من حيث الانتماءات الفرعية والتي لعب عليها المستعمر القديم والقوي الحالي كثيراً، من خلال استكمال وسدّ النقص بالغير، ووفق التزامات أساسية تحقق المبتغى دون مساس بالهوية الخاصة لهذا الطرف أو ذاك، ولا ننسى أن الحالة العالمية وقت الأندلس كانت غير متكافئة دوماً، فإزاء توحد الجبهة المضادة للوجود الإسلامي وبقيادة دينية متزمتة، كانت الجبهة الإسلامية مشتتة متصارعة فيما بينها أو مقاتلة على جبهات متعددة تنسي الهم المركزي حينذاك، مما أحدث تلك النكبة التي ما زال صداها يتردد كل حين.
يبدو المشهد ممكناً لصياغة صفقة قرن إسلامية المعنى والهدف والمحتوى، تجمع الدول الأكثر انحيازاً للحق وفي مقدمتها تركيا وإيران مع الأنظمة التي لا يزال فيها الخير أو تلك التي يزعجها تغول الآخرين أو تستفز إنسانيتها وحشية العدو، لصياغة حلف إسلامي دولي يضع قضية فلسطين في موقعها المناسب، ويجمع الطاقات، ويوجه البوصلة نحو مشروع التحرير وإنهاء وجود هذا الكيان المسخ، والسعي لرواية القصة كما هي دون تزوير، والوصول نحو حالة السلام الحقيقية باستعادة الحق وإنصاف المظلومين لا تلك الموهومة التي تحمل معنى الخنوع بطعم التطبيع المرّ والذليل.
نعم، إنها خطة صعبة وتحتاج وقتاً وصبراً وإرادة وانتماء، ولكنها ليست مستحيلة بل هي اليوم أقرب للإمكان، وسنرى العالم كيف يستفزه هذا الوعي اللازم للخروج من هيمنته القسرية.
إن دروس طوفان الأقصى عديدة، ولكن يبقى الدرس الأهم أنك لا تنتظر غيرك ليصنع نصرك وحياتك، بل بادر أنت بنفسك لتصنعهما وقبل فوات الأوان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.