قيل لنا إن مرتكبي العنف يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم، ومع ذلك، تكشف الحقيقة عن واقع أشد قتامة؛ فنحن لا نجرد الآخرين من إنسانيتهم فحسب، بل نذهب إلى أبعد من ذلك بتحقيرهم، استعبادهم، وفي أقسى الحالات، القضاء عليهم.
هذه الديناميكيات المظلمة تسلط الضوء على أعماق سيكولوجية القسوة التي تعصف بالنفس البشرية، وتطرح تساؤلات جوهرية حول الدوافع والعوامل التي تدفع الإنسان إلى مثل هذه التصرفات المروعة.
إن البشرية قد تتوقف عند حدود القبيلة أو القرية، أو عند حدود العرق، أو الدين، أو اللغة، أو اللون. واليوم تبدو ظواهر مثل العنف، والقسوة، والتجريد من الإنسانية أمراً منتشراً.
عند بحثنا في محركات البحث عن المجموعة البشرية المفضلة والمحتقرة لدينا "المسلمين، والسود، والعرب، واليهود وغيرهم"، وما إلى ذلك – جنباً إلى جنب مع كلمات مثل "الحشرات"، أو "الصراصير"، أو "الحيوانات"، سوف يتدفق أمامنا سيل لا يتوقف منها.
سوف نسمع كلمة "حيوانات" يستخدمها حتى الأشخاص المحترمون، في إشارة إلى للفلسطينيين، أو المهاجرين غير الشرعيين، أو مُرحّلي المهاجرين غير الشرعيين. تظهر مثل القسوة والتجريد في خطاب المتعصبين البيض، والتيارات اليمينية غالباً، ولكن نجده عندما يتحدث بعضنا عن المتعصبين البيض أيضاً.
إنها ليست مجرد مسألة كلمات، بل تاريخ مليء بالبشاعات، فعلى مر الزمان، اعتقد بعض الناس أنه من المقبول امتلاك البشر، وكانت هناك مناقشات صريحة من قِبل بعض الباحثين والساسة، فيما إذا كانت مجموعات معينة (مثل السود والأمريكيين الأصليين) "عبيداً طبيعيين"، حتى أنه في الماضي القريب وتحديداً القرن الماضي، كانت هناك حدائق يتم وضع البشر فيها من قارة أفريقية في حظائر ليشاهدهم الأوروبيون كالحيوانات.
ونظراً لندرة الأدلة المتاحة، فإن دراسات علماء الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية منقسمة بشدة حول سؤال: ما هو عمر العنف البشري؟ استنتج بعض العلماء أن البشر عنيفون بطبيعتهم، شأن عالم النفس النمساوي "سيغموند فرويد" Sigmund Freud، الذي يعتبر أن الإنسان هو كائن يختزن قدراً كبيراً من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية.
بينما رأى آخرون أن البشر في الأساس غير عنيفين، إنما يتعلمون العنف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى. مثل عالم النفس الاجتماعي الكندي الأمريكي "ألبرت باندورا" Albert Bandura، ولكن في كلتا المدرستين التفسيريتين هناك ميل واضح للاعتماد على نظرية المعرفة الطبيعية لتحليل أنواع البنى النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى تجريد الآخرين من إنسانيتهم وإساءة معاملتهم.
بمعنى أنك كإنسان لا تحتاج إلى أن تكون عدائياً لتكون عنصرياً، لكنك تحتاج إلى تصنيف المجموعات. فإذا كنت تعتقد أن أعضاء مجموعة معينة أقل شأناً، وأن لديهم قيمة جوهرية أقل من أعضاء مجموعة أخرى، فإنك تظهر العنصرية. إن التجريد من الإنسانية هو ظاهرة اجتماعية معقدة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأذى والإهمال بين المجموعات.
سيكولوجية القسوة والعقلية اللاإنسانية
إن تصنيف الناس بناءً على عرقهم، لونهم، دينهم، قوميتهم، أو لغتهم، يؤدي إلى تجريدهم من إنسانيتهم، وهي عملية يعرّفها علماء النفس والأنثروبولوجيا بأنها النظر إلى الآخر كأنه أقل من بشر. يشير الفيلسوف وعالم النفس التطوري، ديفيد ليفينغستون سميث، من جامعة نيو إنجلاند، إلى أن الظروف المناسبة قد تجعل معظمنا قادرين على اعتناق عقلية لاإنسانية، ما يدفعنا إلى ارتكاب أفعال وحشية كانت تبدو صعبة أو حتى مستحيلة بالنسبة لنا.
وللتصنيف العرقي جذور تاريخية عميقة، وربما يعود تاريخها إلى الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو، الذي قسم الناس إلى فئتين: اليونانيون والبرابرة، حيث كان يُنظر إلى الأخيرين على أنهم أقل عقلانية و"عبيد بطبيعتهم"، ما يعني أن استعبادهم من قبل اليونانيين كان يُعتبر طبيعياً. هذا التفكير سهّل على القوى الأوروبية تبرير الاستعمار والعبودية عبر التاريخ، مما أدى إلى استغلال واستعباد الشعوب في أنحاء متفرقة من العالم.
فخلال تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، كان الملاكين عبر التاريخ يعتبرون العبيد حيوانات دون البشر. كما جمع الأوروبيون والأمريكيون الشعوب الأفريقية معاً، رافضين حقيقة أنهم ينتمون إلى مجتمعات مختلفة.
تكشف الأحداث التاريخية المتعددة عن كيفية تحول الإنسان إلى عقلية اللاإنسانية، حيث يتم تصنيف الأفراد أو الجماعات كأدنى من البشر، وهو مفهوم يعرفه علماء النفس والأنثروبولوجيا على أنه رؤية الآخر كمخلوق غير بشري.
أحد الأمثلة القريبة هو ما يحدث اليوم في فلسطين، إذ رأى العالم قادة الاحتلال الإسرائيلي وهي تصف الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، هذه النظرة و الأيديولوجية الفاشية تشبه الأيديولوجية النازية في ألمانيا، التي ادعت تفوق الآريين ونظرت إلى اليهود على أنهم فاسدون بشكل جوهري.
حينها استخدم النازيون استخدموا مصطلحات مشابهة لما يستخدمها قادة الاحتلال اليوم، كمصطلح "Untermenschen"، معناها الحرفي "دون البشر"، ليس كتعبير مجازي وإنما للتأكيد على أن اليهود كانوا حرفياً أقل من البشر، وصوروهم على أنهم "جرذان". واليوم يفعل الإسرائيليين نفس الجرم مع الفلسطينيين بوصفهم بأنهم "حيوانات بشرية"، وهم يعنون ذلك بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، التي قامت على أساس التمييز العنصري واستمرت لما يقرب من نصف قرن حتى انتهائها رسمياً في عام 1991، تعد مثالاً آخر على تجريد الإنسانية. هذا النظام، الذي دعمته "الحركة البيضاء"، عمل على تجريد غالبية السكان الأصليين الأفريقيين من إنسانيتهم، مما يشير إلى مدى قدرة الأفكار العنصرية على إزالة الطابع الإنساني عن جماعة بأكملها.
بشكل مماثل، خلال الإبادة الجماعية في رواندا، استخدمت قبائل "الهوتو" وصف "الصراصير" لتصنيف قبائل "التوتسي". هذا التجريد من الإنسانية لم يكن مجرد وسيلة للتمييز، بل كان أيضاً بمثابة تمهيد للقسوة والوحشية والإبادة الجماعية. من خلال هذه الأمثلة، يتضح كيف يمكن للتجريد من الإنسانية أن يفتح الأبواب أمام أعمال لا يمكن تصورها من العنف والقسوة ضد الإنسانية.
التجريد من الإنسانية لا يقتصر على الأفعال الوحشية في سياق النزاعات العرقية أو السياسات العنصرية فحسب، بل يمتد ليصبح أداة محورية في حرب المعلومات، حيث يتم تشكيل صورة الآخر ككيان غير مهم، طفيلي، وغير مستحق للوجود. هذا النهج يعد من بين أشد أساليب الحرب الإعلامية وحشية. على سبيل المثال، تصوير الجندية الأمريكية "ليندي إنجلاند" وهي تسحب مقوداً مربوطاً برقبة أحد السجناء في سجن أبو غريب، مجبرةً إياه على الزحف على الأرض في حين تراقبها زميلتها، يشكل مثالاً صارخاً على استخدام التجريد من الإنسانية كوسيلة للتأثير والسيطرة.
في سياقات تاريخية أخرى، خلال الحرب العالمية الأولى، أُنتج ملصق دعائي نمساوي يصور الصرب كإرهابيين يشبهون القرود، وفي الحرب العالمية الثانية، عُرض الجنود اليابانيين في ملصقات دعائية أمريكية على هيئة فئران. هذه الأمثلة تبين كيف يتم استخدام التجريد من الإنسانية ليس فقط لتبرير العنف، بل أيضاً لتعزيز الروايات الحربية ودعم الجهود العسكرية.
التحريض على أعمال الإبادة الجماعية
التجريد من الإنسانية هو أيضاً أحد أشكال التحريض على الإبادة الجماعية. كما تم استخدامه لتبرير الحروب، والقتل القضائي وخارج نطاق القضاء، ومصادرة الممتلكات، والحرمان من حق الاقتراع وغيرها من الحقوق، ولمهاجمة الأعداء أو المعارضين السياسيين. وهذا ما تفعله إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني كل يوم.
تؤكد أفعال الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أنه عندما يكون البشر في قبضة عقلية تجرد الإنسان من إنسانيته، فإنه غالباً ما يرى الآخر المجرد من إنسانيته "مرعباً وخطراً"، مما يؤدي إلى ما يراه الجناة على أنه صراع حياة أو موت ضد عدو قاتل.
ومن المهم أن نتذكر أن المجردين من الإنسانية يعتقدون في الواقع أن الأشخاص الذين يضطهدونهم أقل من البشر، مما يجعل عملية التجريد من الإنسانية خطيرة للغاية. مثل دعوة "نسيم فاتوري" نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي وعضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن إلى حرق قطاع غزة بالكامل. حيث نشر النائب المتطرف، تدوينة بالعبرية على حسابه على "أكس" قال فيها "كل الانشغال بمدى توفر الإنترنت في غزة ألا يظهر ذلك أننا لم نتعلم شيئاً.. نحن إنسانيون للغاية.. أحرقوا غزة الآن لا أقل من ذلك". وكان نفسه قد طالب في تصريحات نقلتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى البلدان المستعدة لاستقبالهم، وعلى رأسها اسكتلندا. وكذلك دعوات وزير التراث الإسرائيلي "عميحاي إلياهو" لضرب قطاع غزة بقنبلة نووية و إبادتها كأحد الخيارات المطروحة. وبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية دعا إلى استخدام الصواريخ الباليستية لمحو غزة عن الخارطة.
تؤكد أفعال الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ومواقف مماثلة في التاريخ، كما في معاملة السكان الأصليين في الأمريكيتين واتجه الأفارقة، أن هذه العقلية و السلوكيات لا تقتصر على فترة زمنية أو موقع جغرافي محدد، بل تعكس نمطاً من التفكير الذي يؤدي إلى الصراع والعنف. على سبيل المثال، كان يُنظر إلى السكان الأصليين في الأمريكتين على أنهم لا يمكن "تحضيرهم"، وكان يُعتقد أن الأفارقة الذين يسعون للهروب من العبودية يعانون من اضطراب نفسي يُسمى "درابيتومانيا"، وهو مرض افتراضي اخترعه الطبيب الأمريكي صموئيل كارترايت في عام 1851 لتفسير رغبتهم في الهروب. وتُظهر هذه المواقف كيف يؤدي التجريد من الإنسانية إلى سلوكيات مروعة.
تماماً كما في حالات الإعدام خارج نطاق القانون، تُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للتجريد من الإنسانية أن يُبرر السلوكيات الوحشية ويعزز الاعتقاد بأن ضحايا هذا التجريد أقل من البشر، وبالتالي، لا يستحقون الحقوق أو العدالة الأساسية. الدعوات الصادرة عن شخصيات مثل نسيم فاتوري وعميحاي إلياهو، والتي تتضمن حرق قطاع غزة أو استخدام الأسلحة النووية ضده، هي تجليات حديثة لهذا النمط المنحرف من التفكير.
من الناحية البيولوجية، يمكن وصف التجريد من الإنسانية على أنه نوع مُدخل يهمش النوع البشري، أو شخص/عملية مُدخلة تحط من شأن الآخرين بشكل غير إنساني، مما يؤدي لبشاعات وجرائم، مثال على ذلك خلال الحرب الصينية اليابانية الثانية، حيث تسابق ضابطان من الجيش الإمبراطوري الياباني في الأراضي الصينية التي كانت تحت الاحتلال لمعرفة من يستطيع قتل مئة صيني بالسيف أولاً، خلال مذبحة نانجينغ.
وحين استقلت الولايات المتحدة وصفت الأمريكيين الأصليين بأنهم "متوحشون هنود لا يرحمون"، ما يُظهر التجريد من الإنسانية في سياق تاريخي أمريكي. ففي عام 1890، قام الجيش الأمريكي بقتل نحو ثلاثمائة من السكان الأصليين، بينهم نساء وأطفال، في ما يُعرف بمذبحة الركبة الجريحة. كما تم بعد ذلك، تجريد الأمريكيين من أصل أفريقي من إنسانيتهم عبر تصنيفهم ككائنات غير بشرية.
بينما في أستراليا، تم استثناء السكان الأصليين من الإحصاء السكاني عندما اتفقت المستعمرات الأسترالية الست على تشكيل الاتحاد، وإقامة الدولة القومية الحديثة في عام 1901، حيث تم حرمانهم من حق التصويت بشكل صريح. السكان الأصليون في أستراليا كانوا محرومين أيضاً من الحصول على مزايا الضمان الاجتماعي مثل معاشات الشيخوخة وبدلات الأمومة التي كانت تُقدَّم للآخرين.
التمييز والعنصرية
إن التجريد من الإنسانية هو أعلى درجات العنصرية، ما يعني اعتبار الأفراد والجماعات دون المستوى الإنساني الكامل بسبب عرقهم. هذه العملية غالباً ما تنشأ من الصراعات الجماعية، وتتجلى في تمثيل الآخرين كحيوانات في الثقافة الشعبية. كما يرتبط التجريد من الإنسانية تاريخياً بنزاعات الإبادة الجماعية، ويمكن أن يطال المهاجرين واللاجئين، كما شهدت أوروبا في أزمة اللاجئين عام 2015.
إذ يُظهر استخدام مصطلحات مثل "مهاجر" و"مغترب" بناءً على الوضع الاجتماعي والثروة تفضيلات وتحيزات معينة، حيث تُعطى كلمة "مغترب" دلالات إيجابية تشير إلى القدرة والثروة، بينما تُستخدم كلمة "مهاجر" بمعنى أقل استحساناً. الربط بين "مهاجر" و"غير شرعي" يُعتبر استخداماً مهيناً يؤدي إلى تغير سلبي في تصور المجموعات المستهدفة.
كما يؤكد سميث، أنه "ما دام التمييز والعنصرية مستمرَين، فإن التجريد من الإنسانية هو قاب قوسين أو أدنى". بينما تُعرض العنصرية بعض الأفراد كأقل شأناً من الناحية البشرية، يكشف التجريد من الإنسانية عن اعتبارهم أقل من البشر، ما يجعل التجريد من الإنسانية عنصرية معززة.
خلاصة القول، يمكننا إقناع أنفسنا بالاعتقاد بأن الآخرين هم دون البشر أو ليسوا أشخاصاً، من خلال الروايات الثقافية أو من خلال البيولوجيا العصبية الحساسة للتهديدات، أو مزيج من ذلك. إن الاعتقاد بأن الآخر ليس شخصاً حقيقياً يمكّننا من ارتكاب أعمال القسوة والدمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.