في عالم يشهد تحولات جيوسياسية متسارعة، يبرز الشرق الأوسط كمنطقة حيوية تعج بالتحديات والفرص في آنٍ معاً. مع استمرار ضعف يد واشنطن في المنطقة وتراجع قدرتها على السيطرة على الاحتلال الإسرائيلي، يتعزز الاعتقاد بأن الشرق الأوسط وحده هو القادر على إصلاح نفسه. هذه الفكرة تفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول دور القوى الإقليمية في تشكيل مستقبل المنطقة، وكيفية إدارة التوازنات الدقيقة بين المصالح الوطنية والأمن الإقليمي.
لطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق بلطجي المنطقة "إسرائيل"، مستخدمة مزيجاً من القوة العسكرية والدبلوماسية لتأمين مصالحها وتأثيرها في الإقليم. ومع ذلك، فإن التحولات الأخيرة، بما في ذلك التدخل الأمريكي في العدوان على غزة حالياً، تكشف عن تراجع ملحوظ في هذا النفوذ. فبعد زيارات بلينكن المتعددة والفاشلة، وتعنت الاحتلال في عدم الذهاب لأي حلول سياسية، يشير هذا التراجع إلى أنه ربما جاء الوقت لتغير موازين القوى، والتأكيد على أهمية الحلول الإقليمية من الفاعلين الإقليميين.
فالقوى الإقليمية، من تركيا ومصر وإيران والإمارات والسعودية وقطر، تظهر الأكثر قدرة على استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط. التقارب المدروس والجهود المشتركة التي تم اختبارها خلال عمليات التطبيع المشتركة في ما بينها، فطيها لصفحات من الخلافات الجوهرية، وخصوصاً إنهاء القطيعة بين مصر وتركيا يشير إلى أنها قادرة على صنع تعاون إقليمي يمكن أن يقدم حلولاً فعالة للتحديات المعقدة التي تواجه المنطقة، إذا فعلا ما أرادت التعاون.
والخطوة الأولى نحو تحقيق استقرار إقليمي مستدام تتطلب من القوى الإقليمية التخلي عن انتظار عودة النفوذ الأمريكي كدعامة أساسية. بدلاً من ذلك، يجب احتضان مؤسسات وترتيبات إقليمية أكثر ديمومة وفعالية. مثل منتديات الحوار الدورية والتعاون الموسع يمكن أن تفسح المجال لتنفيذ ترتيبات تضمن أمن واستقرار المنطقة بشكل مستقل.
التوجه نحو قيادة جماعية إقليمية يمثل ضرورة لمواجهة التحديات الحالية. الشرق الأوسط، بتعقيداته وتحدياته، يحتاج إلى رؤية موحدة وتعاون صادق بين قواه الكبرى. هذا التحول يشكل فرصة لإعادة تعريف كيفية التعاطي مع الصراعات والأزمات في المنطقة، مع التركيز على القدرة الذاتية للمنطقة وتنوع مصادر قواها على تحقيق الاستقرار والسلام.
في هذا السياق، يبرز التعاون الإقليمي كعنصر حاسم لا يمكن إغفاله. الدول الإقليمية، من خلال التغلب على الخلافات السياسية والتوترات الحدودية، يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في إرساء دعائم السلام والاستقرار. من المهم أن تتبنى هذه الدول استراتيجيات تعتمد على الحوار والدبلوماسية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني. هذا النهج لا يساعد فقط في معالجة الأزمات الحالية، بل يعمل أيضاً على تجنب نشوب النزاعات المستقبلية فيما بينها، ويشد الخناق على الاحتلال الإسرائيلي ويجعله معزولاً.
ويمكن ذلك، عن طريق تعزيز البنى التحتية الإقليمية، إذ يمكن لتكامل الاقتصادي أن يكون مفتاحاً للعب دور مهم في تحقيق الاستقرار الذي ربما يراه البعض صعب المنال. من خلال الاستثمار في مشاريع مشتركة وتعزيز التجارة البينية، يمكن للدول الإقليمية تحسين العلاقات وبناء الثقة. هذا التكامل الاقتصادي يخلق اعتماداً متبادلاً يجعل فكرة الصراع على النفوذ أقل جاذبية، ويفتح الباب أمام حلول سلمية للنزاعات السياسية، ويجب ألا نستبعد ذلك، فبالنظر إلى الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية والصعوبات والخلافات التي عصفت به، ربما تعطي أملاً منطقياً.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات الكبيرة التي تواجه هذا المسار نحو التعاون الإقليمي. الخلافات العميقة حول قضايا مثل الحدود، المياه، والنفوذ السياسي تظل عقبات كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، التدخلات الخارجية والمصالح الجيوسياسية للقوى العالمية، يمكن أن تعقد الجهود الإقليمية. لكن، من خلال الدبلوماسية المرنة والإرادة السياسية، يمكن التغلب على هذه التحديات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.