يُظهر علماء دراسات الإنسان القديم، المختصون بعصور ما قبل التاريخ، اهتماماً بالغاً بمستوى تحضر المجتمعات البشرية القديمة، فعلى سبيل المثال، من خلال تحليلهم للعظام، خصوصاً عظام التي التأمت بعد كسور. إذ يعتبرون أن وجود عظم ملتئم يشير إلى أن المجتمع الذي عاش فيه صاحب العظم كان يتسم بالتكاتف والتراحم؛ إذ في مجتمعات الكائنات الحية، إذا كسرت هذه العظمة فإن مصير المصاب هو الموت المحقق بسبب عدم قدرته على الحركة والتكيف مع البيئة المحيطة. بينما في المجتمعات البشرية القديمة، يدل شفاء مثل هذه الكسور على أن الأفراد كانوا يُظهرون رعاية ودعماً استثنائيين للمصابين، حيث كانوا يواصلون إطعامهم والعناية بهم لأشهر حتى تلتئم عظامهم بالكامل.
إن القيم الإنسانية النبيلة هي أفضل ما أنتجته الحضارة الإنسانية، فتلك القيم، هي ما يميز الإنسان عن عن سائر مجتمعات الكائنات الحية، ولكن في بعض الأحيان يتم امتهان هذه القيم النبيلة أو يتم التعامل معها بانتقائية. فيتم التمسك بها في مواجهة الخصوم ويتم التخلي عنها إذا كان من ينتهك هذه القيم من التابعين أو الحلفاء.
في 16 فبراير/شباط 2024، أفادت سلطات السجون الروسية لمنطقة ياما في القطب الشمالي في بيان بأن المعارض الروسي أليكسي نافالني توفي في سجنه في سيبيريا بعد أن شعر "بوعكة بعد نزهة وغاب عن الوعي بشكل شبه فوري"، وهي وفاة ربما ليست طبيعية لمعارض شرس للرئيس الروسي بوتين.
بمجرد وفاته، سارعت عدة دول أوروبية إلى استدعاء السفراء الروس في لندن، وباريس، وروما، ومدريد، وستوكهولم، ولاهاي، وغيرها من العواصم الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتقديم احتجاجات والمطالبة بالتحقيق في وفاته.
يبدو هذا جانباً إنسانياً، رفضاً لإزهاق حياة مُعارض سياسي في روسيا، إذا كان ذلك نابعاً من ضمير إنساني خالص، لا من حسابات سياسية.
السياسة الغربية وسحق القيم الإنسانية
لكن كل هذه العواصم الغربية لم تتحرك عندما ذاعت أخبار الطفلة الفلسطينية، هند، التي كانت برفقة أعمامها وأقاربها في السيارة، هاربين من نيران الاحتلال الإسرائيلي، وتاركين منازلهم إلى خيم التهجير، وقد قصفهم جيش الاحتلال فأزهق أرواحهم جميعاً، وبقيت الطفلة على قيد الحياة وحدها، فاتصلت بالإسعاف، وأرسلوا إليها سيارة إسعاف. ورغم أن طاقم المسعفين في سيارة الإسعاف قد نسّق مع قوات الاحتلال لكي لا يتم قصفهم، إلا أن الاتصال بين طاقم الإسعاف والطفلة انقطع، حتى وُجدوا بعد أيام، وقد قصفتهم دبابة إسرائيلية فأحرقت سيارة الإسعاف بطاقمها وسيارة الطفلة، ووُجد جسد الطفلة المسكينة وقد انتفخ وتحلل، واحترقت وتحللت أجساد المسعفين، وظهرت عظامها.
لم تتحرك حكومات الغرب إزاء مقتل ثلاثين ألف مدني فلسطيني، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، وربما يكون مثلهم تحت الأنقاض دون أن يعرف عنهم أي شيء.
لم يتحرك الغرب أمام الحصار الشديد المفروض على أهالي غزة، حتى باتوا دون دقيق يصنعون منه خبزهم، فاضطروا إلى طحن علف الماشية، وعجنه وخبزه ليصبح خبزاً لهم.
لم تتحرك حكومات الغرب عند حصار المستشفيات، وقتل المرضى والأطباء، ومنع الأدوية والأوكسجين عن المرضى حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة، ولا عند إخراج الأطفال الخدج من الحضانات وتركهم حتى يموتوا.
لم تتحرك حكومات الغرب عندما تنكّر جنود الاحتلال الإسرائيلي في زي أطباء واقتحموا أحد المستشفيات ليقتلوا بدم بارد فلسطينياً أعزل ومصاباً بشلل كامل، ويقتلوا كل من كان معه من عائلته.
بل على العكس تماماً تحرك الغرب بقوة لدعم إسرائيل لسحق غزة بعد طوفان الأقصى بدعم غير محدود، حيث توافد قادة دول الغرب إلى إسرائيل، مقدمين الدعم السياسي الكامل، حتى أن جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة، ترأس مجلس الحرب الإسرائيلي للإعداد لغزو غزة.
وتوافدت أساطيل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، التي تضم حاملات طائرات ومدمرات وفرقاطات، إلى شواطئ فلسطين المحتلة كدعم عسكري مبدئي لإسرائيل وطمأنة لحكومتها بأنهم يقفون إلى جانبها. ثم تم إنشاء جسور جوية وبحرية لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية والإلكترونية، وجالت طائرات الاستطلاع الأمريكية والبريطانية في أجواء غزة لتصوير كل حركة وسكون فيها، وتوفير هذه المعلومات لإسرائيل تمهيداً لغزوها البري وما تبعه من مذابح وتهجير قسري وقتل بالتجويع والحرمان من الدواء لكل فلسطيني على أرض غزة.
لم يتحرك الغرب ولم تستيقظ ضمائر حكامه عند رؤية تهجير مليوني فلسطيني من منازلهم ليقيموا في خيم من البلاستيك، التي لا تقي من البرد ولا المطر، ولا لحصار وممارسات التجويع الممنهجة التي يمارسها الاحتلال بمنع المساعدات وقصفها. لا يتحرك الغرب ليمنع الاحتلال وممارساته الهمجية حتى وإن نسفت كل القيم والبروتوكولات والقوانين الدولية التي طالما زعم الغرب أنه حامٍ لها، بل إنه يسخّر كل الطرق الدبلوماسية لمنع مجلس الأمن من إصدار أي قرار يأمر بإيقاف الحرب لأسباب إنسانية.
إن أقصى ما وصل إليه ضمير حكام الغرب، عندما رأوا إسرائيل تستعد لاقتحام مدينة رفح، التي توافد إليها نحو مليوني مهجر من كافة أنحاء غزة، لم يكن مطالبة زعماء الغرب بمنع ذلك، وإنما فقط طالبوا جيش الاحتلال وحكومته بالعمل على تقليل عدد القتلى من المدنيين.
تنظر حكومات الغرب إلى فلسطين بنظرة استعمارية، فترى المواطن الإسرائيلي على أنه أعلى في درجة الإنسانية من الفلسطيني، ولذا تحركت كل حكومات الغرب واستنكرت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، بل واجتهد الكثير من السياسين والإعلاميين الغربيين لإضافة الكثير من الأكاذيب لدعم الإحتلال وجرائمه.
مثل الرئيس الأمريكي بايدن، الذي أعلن أنه رأى جثث أطفال محروقة ومقطوعة الرأس، ثم تراجع عن ذلك. ونشر الإعلام الغربي كثيراً من الأكاذيب حول حرق الأطفال واغتصاب النساء ولم يتراجع عن ذلك بعد ثبوت كذب هذه الأخبار، بل صمت الإعلام الغربي عما نشرته صحف إسرائيلية بأن كثيراً من الضحايا المدنيين في السابع من أكتوبر تم قصفهم بطائرات أو دبابات إسرائيلية وحرقهم تطبيقاً "بروتوكول هانيبال" الذي يلزم الجيش الإسرائيلي بقتل الإسرائيليين إذا وقعوا في أسر المقاومة.
كان غضب الحكومات الغربية شديداً لمقتل عدة مئات من الإسرائيليين، أكثر من نصفهم من جنود فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي، ولكن تلك الحكومات لم تغضب لمقتل ثلاثين ألف فلسطيني مدني حتى اليوم ولم تغضب لأسر الآلاف من الفلسطينيين والعشرات من الأطباء العاملين بالمستشفيات، ولم يغضب الغرب لصور الجنود الإسرائيليين وقد أجبروا الأسرى الفلسطينيين على خلع كل ملابسهم تماماً في جو شديد البرودة ودون اعتبار لآدميتهم وإنسانيتهم.
ولم يغضب حكام الغرب من حملات التجويع الممنهجة وقصف القليل جداً من سيارات النقل التي سمحوا لها بنقل المساعدات ومع ذلك قصفوها. ولم يخجل حكام الغرب من الصور التي التقطها جنود جيش الاحتلال مع الأسرى أو مع المنازل التي دمروها على سكانها، أو من منع سيارات الإسعاف من نقل ضحايا مجازر جيش الاحتلال.
كيف تسحق الازدواجية الغربية القيم الإنسانية في العالم؟
بل بكل عنجهية وعنفوان استعماري، يواصل الغرب الإعلان بصوت عالٍ عن تمسكه بقيم الحريات وحقوق الإنسان، على الرغم من كل سياساته التي تسحق بلا هوادة أي قيم إنسانية عندما تتعارض مع مصالحها. إذ يتبنى الغرب هذه المبادئ والقيم بشكل انتقائي، ولا سيما عندما يواجه قوى تعتبرها مُعادية، كما في حالات الاتحاد السوفييتي السابق، وروسيا، والصين، وإيران، وسوريا، وكوبا. في المقابل، تغضّ حكومات الغرب الطرف عن الفظائع التي ترتكبها الدول الموالية أو الخاضعة لها، بما في ذلك المجازر، والانقلابات، ومصادرة الحريات شعوبهم، بل وتذهب إلى حد دعم الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الديمقراطية الوليدة إذا كانت نتائج الانتخابات الحرة تُفضي إلى تشكيل حكومات لا ترضخ للنفوذ الغربي.
والأمثلة كثيرة منذ الستينيات وحتى اليوم، حيث دعموا خلال الحرب الباردة الانقلابات ضد النظم الشيوعية حتى لو جاءت بانتخابات حرة، وأقاموا مكانها ديكتاتوريات عسكرية، كما في معظم دول أمريكا اللاتينية تقريباً، وكثير من الدول الأفريقية والآسيوية.
وفي الثلاثة عقود الأخيرة، كانت حكومات الغرب بالمرصاد لأي أحزاب إسلامية تفوز بالانتخابات، سواء في الجزائر، أو الضفة الغربية وقطاع غزة، أو تركيا أربكان، أو مصر بعد الثورة، وأخيراً في تونس. فحكومات الغرب مع الانتخابات الحرة النزيهة وحق الشعوب في حكم نفسها، بشرط ألا تسفر هذه الانتخابات عن فوز من يعارض مصالحهم أو مشاريعهم الاستعمارية، سواء إسلاميين حالياً أو شيوعيين أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.