لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن مواجهة الاحتلال، بمختلف الوسائل والطرق، وهي مواجهة نشهد واحدةً من أشدّ لحظاتها، على إثر انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، وما تشهده فلسطين من صمودٍ أسطوري، والتحامٍ ملحميّ، وفي سياق الحديث عن جدوى المقاومة، وجذوتها التي ما خبت البتة، نتناول في هذا المقال العمليات الفردية، والتي تُعدّ من أبرز تجليات المقاومة في المناطق الفلسطينية المحتلة في السنوات القليلة الماضية، إذ تعجز أذرع الاحتلال الأمنية عن توقع المنفذين وتعقبهم، إلى جانب الخسائر الكبيرة التي تحدثها هذه العمليات في صفوف المستوطنين وقوات الاحتلال، نتيجة طبيعة التنفيذ الفردية، وفشل الاحتلال في تحديد زمان هذه العمليات ومكانها.
ومنذ عام 2015 رسخت العمليات الفردية نفسها كواحدة من أنساق التفاعل مع اعتداءات الاحتلال بحق المسجد الأقصى، والمناطق الفلسطينية ومخيماتها، وأخيراً على إثر العدوان الوحشي على قطاع غزة، وما ترتكبه قوات الاحتلال من مجازر فظيعة. وقد عادت تلك العمليات لتقض مضجع الحالة الأمنية الإسرائيلية مرة جديدة، وآخرها يوم 22 فبراير/شباط الحالي في عملية إطلاق نوعية، لتعبر عن جزء من ردة الفعل الفلسطينية تجاه ما تتحضر له سلطات الاحتلال من قيود في الأقصى خلال شهر رمضان، ومن جرائم في قطاع غزة.
المقاومة داخل الأراضي المحتلة تتجاوز سياسات الاحتلال القمعية
رسخت سلطات الاحتلال مجموعة من الأدوات العقابية في سياق ردع منفذي العمليات الفريدة، وأطلق على هذه السياسة "اقتلاع الجذور"، وهي السياسة الأمنية التي أقرتها سلطات الاحتلال في عام 2016 لمواجهة "انتفاضة القدس"، على إثر فشل سياسته المسماة "جز العشب"، إلا أن استمرار العمليات النوعية طوال السنوات الماضية يدفع قوات الاحتلال إلى استخدام المزيد من تقنيات الرصد والمتابعة، إضافةً إلى توحشها في التعامل مع منفذي العمليات الفردية، وتجاه هذه الوحشية كشفت العملية الأخيرة عن تحضيرات مسبقة واستخدام أسلحة أوتوماتيكيّة، والاستفادة من حالة الاختناق المروري عند حاجز الزعيم، لتنفيذ العملية، وهو ما يتصل بتصاعد مجمل عدد عمليات إطلاق النار في العامين الماضيين.
وحول عمليات إطلاق النار، وتنوع أماكن تنفيذها، في مختلف المناطق الفلسطينية المحتلة، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
- تنفيذ عمليات إطلاق النار بأنساقٍ مفاجئة، إن من حيث المكان والتوقيت، وخاصة في الأوقات التي يتجمع فيها المستوطنون.
- استهداف الحواجز الإسرائيلية بشكلٍ متكرر، خاصة تلك القريبة من مدن الضفة الغربية المحتلة، من خلال مجموعات المقاومة.
- استخدام السيارات لتنفيذ عمليات إطلاق نار خاطفة، واستخدام الأسلحة وقدرة المنفذين على الانسحاب من مكان العملية، والتواري عن آلة الاحتلال الأمنية والاستخباراتية.
وقد أشارت التقارير الفلسطينية إلى تصاعد استخدام الأسلحة بشكلٍ لافت في عام 2023، وتنفيذ المزيد من عمليات إطلاق النار، إما من خلال العمليات الفردية، أو من خلال استهداف نقاط الاحتلال ومركباته وحواجزه الأمنية، فقد سجلت معطيات عام 2023 تنفيذ 2053 عملية إطلاق نار، في مقابل نحو 848 عملية إطلاق نار في عام 2022، ما يعني ارتفاعاً بنسبة 142%.
المقاومة في المناطق الفلسطينية المحتلة.. "فردية" الجماهير المقاومة
على الرغم من الطابع الفردي لعمليات المقاومة، إلا أنها تجلٍّ لانخراط الجماهير الفلسطينيّة في هذه المقاومة، فلم تعد المقاومة قاصرةً على فئاتٍ بعينها، فقد أثبتت العمليات الفردية المختلفة مشاركة فئات مختلفة فيها، من المدرس والشيخ والفتى، وصولاً إلى الطبيب والمهندس وغيرهم، ما يؤكد أن الجماهير الفلسطينية لا تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري من إجرام واعتداءات، على الرغم مما تقوم به قوات الاحتلال من قمعٍ وحشي، ومحاولة لوأد أي حراك مقاوم.
وفي سياق متصل بهذه المقاومة، كشف التقرير السنوي الصادر عن مركز معلومات فلسطين "معطى"، الذي يتناول عمليات المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، عن تنفيذ نحو 14183 عملية في المناطق الفلسطينية، وهو رقمٌ لافت، على الرغم من كل السياسات الإسرائيلية التي حاولت قمع المقاومة، وتسديد ضربات للمجموعات المقاومة في جنين ونابلس ونور شمس، وغيرها من المخيمات الفلسطينية، وبحسب "معطى" فقد تضمنت العمليات السابقة نحو 3258 عملية نوعية، ما يؤشر إلى حجم المشاركة الفلسطينيّة، وما يُمكن أن تتضمنه هذه المشاركة من أثمانٍ باهظة يدفعها الفلسطينيون.
المقاومة في القدس منذ السابع من أكتوبر
شكلت العمليات الفردية في القدس المحتلة تأكيداً على أن جذوة المقاومة في القدس لا يُمكن أن تجتث، وأن المقاومة في المدينة تُثبت وجودها في وجه التصعيد الذي تقوده الحكومة الإسرائيلية، وما تحضر له من إجراءات وقيود في شهر رمضان المبارك، ما يُشير إلى استمرار الأقصى كأحد أبرز أسباب التفجر في فلسطين، وتُشير المعطيات إلى أن المدينة المحتلة قد شهدت 10 عمليات نوعية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، من أبرزها عملية إطلاق النار عند حاجز النفق في يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني وأدت إلى مقتل جندي وإصابة آخرين، وعملية إطلاق النار في مستوطنة "أموت" في 30 من نفس الشهر وأدت إلى مقتل مستوطنين، وأخيراً عملية إطلاق النار في 16 فبراير/شباط هذا العام في مستوطنة "كريات ملاخي"، والتي أدت إلى مقتل مستوطنين وإصابة 4 آخرين، التي نفذها الشهيد فادي جمجوم من مخيم شعفاط، والعملية التي حدثت الأسبوع الماضي يوم 22 فبراير/شباط قرب حاجز الزعيم والتي أدت إلى مقتل مستوطنين وإصابة 8 آخرين.
توضح هذه العمليات جملةً من الرسائل، من أبرزها استعصاء إجراءات الاحتلال في القدس المحتلة، فبرغم أن المدينة تواجه مخططات الاحتلال المختلفة، بالإضافة إلى حصار المدينة وإحاطتها بالجدار العازل وغيرها من الإجراءات، لم تستطع عزل المدينة، خاصة أو المناطق الفلسطينية المحتلة عامة عن المقاومة، إذ تواصل الأخيرة توصيل ضرب استراتيجية لخطط الاحتلال الأمنية، والتأكيد مرة جديدة على فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة الإرادة الفلسطينية، كما فشلت في تطويع الفلسطينيين وإنهاء مقاومتهم.
أخيراً، لم تعُد البندقية إلى القدس المحتلة على إثر "طوفان الأقصى" فقط، بل شكلت القدس نقطة تفجرٍ دائمة في وجه الاحتلال، وبكل تأكيد لن تتوقف العمليات النوعية في المدى المنظور، بل ستتجه نحو التصاعد، ولو لم يكن تصاعداً ملموساً في أنماط التنفيذ وكثافات العمليات، بل في أثر هذه العمليات وما تلقيه من آثار على بيئة الاحتلال وأمن مستوطنيه، نتيجة طابعها الفرديّ، وهو تصاعد مرتبط بشكلٍ كبير بالتصعيد المرتقب في شهر رمضان المبارك، وما تريد سلطات الاحتلال فرضه على المسجد الأقصى، وما يتصل بهذه الإجراءات من قمعٍ للمصلين، ومنع شرائح كبيرة منهم من الوصول إلى الأقصى، وخاصة من فلسطينيي الضفة الغربية المحتلة، إضافةً إلى منع الاعتكاف في المسجد، وفتح الباب أمام المستوطنين لاقتحام الأقصى في رمضان، ما يدفع "كرة النار" نحو التدحرج، وتصاعد الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصةً أن أسرلة القدس واستهداف مقدساتها، واحدٌ من الثوابت الأساسية لدى حكومات الاحتلال عامة، وهذه الحكومة اليمينيّة على وجه الخصوص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.