ها هي الحرب على قطاع غزة قد دخلت شهرها الخامس منذ أيام، وإسرائيل لم تتمكن طوال هذه الفترة من استعادة ما تهدَّم من صورتها في يوم واحد، ولا يزال الدم الفلسطيني يسيل دون أن يروي يبس هيبة إسرائيل، التي تواصل ارتكاب جرائمها وعدوانها، خاصةً بعد الإعلان عن عملية عسكرية برية كبرى في رفح لمواصلة أفعالها الهمجية، غزة التي غُمس ترابها بدماء الأبرياء، وسماؤها بأسماء الشهداء، تشهد يوماً تلو الآخر انضمام المزيد من أهلها إلى صفوف الشهداء في طريق القدس.
وإذا كانت جبهة جنوب لبنان قد سجلت منذ السابع من أكتوبر حالة من التعادل بين الحرب واللاحرب، فقد بدا الأمر نافراً مع ما يعلنه حزب الله في لبنان يومياً عن استهدافها المزيد من المواقع والثكنات العسكرية في الأراضي المحتلة من جنوب لبنان. وهذا يشكل تحدياً للحكومة والجيش واليونيفيل والأمم المتحدة في سبيل لبنان وغزة وشعبيهما.
لكن السؤال الآن: هل دخلنا منطقة الحل، أي التوصل إلى تسوية تُرضي المقاومة في غزة، ويرضخ لها الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي؟ الجواب ليس بهذه السهولة، فالمسافة بين النصوص التي كان يطرحها كل من الطرفين، أي المقاومة وفي مقابلها الاحتلال الإسرائيلي وداعموه، لا تزال كبيرة. فالأرضية التي ينطلق منها كلا الطرفين في مقاربة الدعوة للهدنة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مختلفة عن الأخرى، حيث إن المقاربة الأمريكية الإسرائيلية لا تزال تقوم على كيفية الحصول على فرصة لتحرير كامل الأسرى الإسرائيليين من دون دفع الثمن المتوجب، وهو إعلان فشل العدوان الإسرائيلي، أي وقف إطلاق النار بشكل نهائي.
إبقاء ورقة الحرب بيد طرف الاحتلال حتى لو كان عاجزاً عن استخدامها هو تعبير سياسي عن عدم مواجهة الرأي العام الإسرائيلي بنتيجة الفشل أمام المقاومة الفلسطينية، لأنه مجرد أن تبقى ورقة الحرب بيد الحكومة الإسرائيلية فهذا يعني تماسك الحكومة أولاً، والتي سيستقيل الوزراء الممثلون لليمين المتطرف منها إذا وافقت على وقف الحرب. وهذا السبب ما يدفع نتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي للقول إنه سوف يعود للحرب حتى لو لم يعد إليها بعد نهاية شهر أو اثنين أو خمسة أشهر.
الرؤية الأمريكية الإسرائيلية تنطلق من فرضية أن المقاومة يمكن أن تقبل بهذا الحل، وهي مبنية على تصورين. التصور الأول له صلة بتقدير خاطئ لصمود شعب غزة أمام الظروف القاسية التي يعيشها في البرد ونقص الغذاء والدواء وتدمير المساكن والبنية التحتية. يعتقدون أن هذا سوف يضغط على المقاومة لتخفيض سقف شروطها والقبول بهدنة تؤمن المساعدات الإنسانية، ولا يهم الأمريكي والإسرائيلي أن يُقال إن هذا نوع من جرائم الحرب، أي مقايضة الغذاء والدواء ومقدار الحد الأدنى من شروط الحياة مقابل شرط الحصول على الأسرى الإسرائيليين بأقل ثمن ممكن في عملية التبادل، لكن على الأرض هم يراهنون على ذلك.
ثانياً، يظنون أن التهديد باستكمال العملية العسكرية نحو رفح يمكن أن يشكل أيضاً عنصر ضغط إضافياً، وربما ينجح طموحهم الكبير لتهجير أهل غزة.
أما الواقع فيقول إن الشعب الفلسطيني المخذول في غزة من جميع الدول، والذي قدم حتى الآن قرابة الثلاثين ألف شهيد وسبعين ألف جريح، فلن يسامح المقاومة إذا قبلت بأقل من وقف إطلاق النار ونزع النصر من الاحتلال. لأن هذا الشعب، الذي اختار مساره الذي بُنيت عليه المقاومة، يرى أن الوضع في غزة كان لا يطاق قبل السابع من أكتوبر، وخلال الحرب كانت التضحيات هائلة، ومع تأزم الوضع فلا سبيل إلا وقف إطلاق نار من أجل البقاء.
وبالتالي، فإن أي صيغة دون إيقاف الحرب بشكل كامل هي مرفوضة من قبل الفلسطينيين؛ لذلك لن تتنازل المقاومة عن وقف نهائي لإطلاق النار وليس مجرد هدنة. بالإضافة إلى ذلك، يسمح وضع المقاومة اليوم بأن يتضمن أي اتفاق فك الحصار، وأيضاً خطة واضحة لإعادة الإعمار، وأن يكون في سياق مفتوح على أفق يتناول الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، بحدها الأدنى، ودولة فلسطينية على حدود 1967.
رغم ذلك، ما زالت المسافات بعيدة، فبينما تسعى المقاومة لتأكيد نصرها الذي حققته في السابع من أكتوبر لإحقاق حق شعبها، يواصل الاحتلال الإسرائيلي وداعموه محاولاتهم لمحو آثار الهزيمة المذلة التي تكبدوها من المقاومة في ذلك اليوم. فقد مثلت عملية طوفان الأقصى، في تنفيذها وتوقيتها، فشلاً ذريعاً للاحتلال وسرديته، وهزت وضعه الإقليمي الذي كان يأمل في تتويجه بإتمام التطبيع مع باقي دول المنطقة.
بمعنى أن المقاومة اليوم تفاوض وهي في موقف النصر. بالإضافة لذلك، فإن العمليات الرديفة التي شنها حزب الله والحوثيون والحركات الأخرى في المنطقة لدعم جبهة غزة، قد تحوّلت بحد ذاتها أيضاً إلى ما يشبه مصادر استنزاف للاحتلال وداعميه. فالإسرائيلي غير قادر على إعادة مستوطنيه في الشمال المحتل، والأمريكي غير قادر على التصرف على قاعدة أن ردعه فعال في البحر الأحمر، إضافة إلى قواعده التي تتعرض للاستهداف في كل من العراق وسوريا، وهو لا يجد حلاً لهذا؛ لذلك لا يجب أن تسعى المقاومة لتقديم تنازلات تضيع حق شعبها، بل يجب أن تعمل لاسترداد حقوقه وضمانها أمام الجميع.
ومثلما ترغب المقاومة في وقف الحرب لإنهاء معاناة شعبها، تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسَها أيضاً في حاجة لوقف الحرب، لكن ليس من أجل الفلسطينيين، بل لأجل لملمة آثار الهزيمة التي لحقت بالاحتلال وسرديته، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة ترتيب الوضع الإقليمي كما كان قبل السابع من أكتوبر، حيث كان الاحتلال يتربع على رأسه. بالإضافة إلى ذلك، تسعى لترميم هيمنتها وصورة الردع الأمريكي التي تراجعت بسبب الخسائر والاستهدافات التي تكبدتها بسبب تداعيات الحرب على غزة.
لكن المشكلة أن الاحتلال وواشنطن لا يريدان دفع الثمن، وغير مستعدين لتحمل فاتورة الهزيمة، وهو ما يجعل مسألة وقف إطلاق النار إشكالية، لكن هل هذا يعني أننا متجهون نحو المزيد من الحرب، وإلى متى؟ في حرب بلا أفق سياسي قد يبدو للإدارة الأمريكية والاحتلال أنه الحل الوحيد للانتصار، لكن هذا قد لا يتوافق مع الواقع. فالرهان على المزيد من الحرب يعني المزيد من الخسائر، فبالنظر للميدان والساحة السياسية في المنطقة لا الإسرائيلي قادر على المزيد من الحرب، ولا الأمريكي أيضاً، والوقت ليس في صالحهم.
القوات الإسرائيلية، التي واجهت معارك شاقة في غزة، تكبدت خسائر جسيمة وأظهرت علامات الإنهاك الواضح، والاعتماد المتواصل على وحدات الاحتياط، التي لا تتمتع بالكفاءة والجاهزية المطلوبة، يرسم مساراً نحو تكبد الاحتلال المزيد من الخسائر والفشل الاستراتيجي، وأي قيادة تسعى بالطبع إلى حماية قواتها من هذه الاختبارات القاسية. ومن الناحية الأمريكية، فإن استمرار الوضع الراهن يعني المزيد من تآكل السمعة، خاصةً مع تعاظم عجزها في منطقة البحر الأحمر، وفي العراق وسوريا، حيث تعني الغارات المستمرة استهدافاً متزايداً للقواعد الأمريكية.
على جبهة لبنان أيضاً، الخطاب الكثير لا يعود بالنفع، فوقوف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مراراً وتكراراً يتحدث عن المهل التي تنقضي دون تحقق، وتصريحاته بشأن اللجوء للحرب في الشمال إذا فشلت الجهود الدبلوماسية، تلك الجهود التي منحت فرصة لأسابيع وعشرة أيام إضافية مرت أيضاً، تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن الزمن لا يعمل لصالح الجانب الإسرائيلي أو الأمريكي.
كل تلك المؤشرات تشير إلى أننا ربما نقف في منطقة اللاحرب، والانتقال إلى مرحلة وقف الحرب الذي قد يستغرق بعض الوقت، ولكن ليس طويلاً، ما يشكل معادلة تدور حول تقريب المسافات التي تفصل بين الأطراف، لأن القدر المحتوم لكل من الأمريكيين والإسرائيليين هو الوصول إلى منطقة اللاحرب. فالتملص من الاعتراف بالهزيمة وإعلان وقف إطلاق النار ليس خياراً متاحاً، لا سبيل إلا بالاقتراب من موافقة تقبل بشروط المقاومة، التي تظهر مزيداً من الثبات والصمود.
أما عن المقاومة فالصبر يمثل استراتيجية بقاء ضرورية، وبمرور الوقت، حتى وإن طال، يظل الحديث عن التفاهمات قائماً ومتداولاً، ومن المتوقع أن تتغير النظرة تجاه مقترحات المقاومة من كونها مستبعدة أو مبالغاً فيها إلى إدراك إيجابياتها الجديرة بالتقدير. سيبدأ النقاش حول إمكانية إيجاد حلول وسطية، نظراً لعدم وجود بدائل قابلة للتطبيق لدى الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، اللذين يواجهان تحديات جمة في الميدان أمام قوة المقاومة المؤثرة.
المقاومة، بفضل قدرتها على السيطرة والحفاظ على مواقعها، تُظهر أن الطرفين الأمريكي والإسرائيلي أمامهما خيارات محدودة. فإسرائيل، التي استنفدت معظم خياراتها العسكرية، قد تجد نفسها بحاجة إلى الدعم الأمريكي الكامل إذا ما قررت توسيع نطاق النزاع إلى لبنان، وبذلك يصبح القرار بيد الولايات المتحدة الأمريكية، التي يتوجب عليها تقييم الوضع واتخاذ قراراتها بحكمة لتجنب مزيد من التصعيد.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقف على أعتاب فترة انتخابات رئاسية حاسمة، قد تتجنب الانخراط في نزاع عسكري واسع النطاق في المنطقة. هذا التحفظ يعكس الحاجة إلى تحقيق استقرار سياسي، وتجنب المخاطر التي قد تنجم عن تصعيد الصراعات، بالتالي يظهر أن السبيل الوحيد المتاح هو كيف يُهيأ الواقع الإسرائيلي من أجل القبول بوقف نهائي للحرب.
في الوقت الراهن، يبدو أن السيناريو الأمثل للولايات المتحدة الأمريكية هو تغيير في المشهد السياسي الإسرائيلي، بما في ذلك إمكانية تصدع وإعادة ترميم الحكومة الحالية. هذا الخيار رغم أنه يحمل مخاطر كبيرة، خاصةً في ضوء العواقب المعنوية والسياسية والاجتماعية المحتملة على نتنياهو والحكومة الإسرائيلية، يُعتبر بمثابة مفتاح لمواجهة مأزق الاحتلال الراهن. الاعتراف بالهزيمة قد يثير ردود فعل شديدة، لا سيما من التيار المتطرف الذي قد ينقل المعركة إلى الشوارع، ما يزيد من تعقيد الوضع الداخلي في إسرائيل.
قدر الإسرائيلي الآن هو القبول بشروط المقاومة؛ لأن الحرب أقفلت أمامه، وما لم تنخرط أمريكا بالحرب مباشرة فهو غير قادر على مواصلة القتال. أعود وأكرر، نحن في منطقة اللاحرب، والأرجح أن يتم إنهاؤها، لكن يحول دون ذلك مجموعة من التعقيدات التي تطال الوضع الداخلي للاحتلال، والذي لا بد من تذليله حتى نصل إلى إنهاء الحرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.