في العصر الحديث، يشكل حق النقض (الفيتو) ضمن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إحدى أبرز الأدوات الدبلوماسية التي تحمل في طياتها قدراً كبيراً من القوة والتأثير. على الرغم من أن الفيتو يُقدم ظاهرياً كوسيلة لضمان التوازن ومنع الإجراءات الأحادية داخل المنظمة الدولية، فإن استخدامه عبر التاريخ يكشف عن وجه آخر؛ وجه يعكس الاستخدام الاستراتيجي للقوة لتحقيق مصالح خاصة، وفي كثير من الأحيان، استمرار الهيمنة الاستعمارية بشكل جديد.
الأسبوع الماضي، صوتت 13 دولة عضوا في المجلس لصالح القرار الجزائري الذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في قطاع غزة مع امتناع بريطانيا عن التصويت في خطوة اعتبرها البعض بمثابة نصف تصويت بـ"نعم"، خاصة في ظل التحالف الكبير بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي أجهضت المبادرة الجزائرية عن طريق حق النقض (الفيتو)كما كان متوقعاً منها، وهذه هي المرة الثالثة التي تقوم فيها واشنطن بالتصويت بالرفض منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ومن ثم إسقاط جميع القرارات والمساعي الرامية إلى وقف العدوان الهمجي على المدنيين العزّل في قطاع غزة.
يعود تاريخ حق النقض إلى تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، حيث كان يُنظر إليه كوسيلة لضمان عدم اتخاذ قرارات مهمة دون الحصول على توافق واسع بين القوى العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، على مر السنين، استخدمت هذه القوى الفيتو لحماية مصالحها وحلفائها، بغض النظر عن العواقب الإنسانية أو القانونية. هذا الاستخدام يعكس بوضوحٍ النزعة الاستعمارية التي لم تختفِ، بل تحولت في أشكالها.
وهذا ما نراه اليوم بوضوح وليس لأول مرة، إذ تتضح نوايا أمريكا في إيجاد سبيل ومخرج آمن لحليفتها إسرائيل في المنطقة والتي تتجرع مزيداً من الخسائر اليوميّة في صفوفها. ويبيّن من جهة أخرى المباركة الأمريكية للاحتلال في الزحف بكل الأماكن في غزّة ومحاولة تهجير أهلها، وتحقيق مزيد من التوسعات الاستعمارية، تمهيداً لما هو قادمٌ من مشاريع لابتلاع فلسطين بالكامل ثم أجزاء الدول العربية المجاورة.
إن تأثير الفيتو في حرب غزة يوضح بشكل فج، رغبة واشنطن في استمرار المجزرة، وخروج الاحتلال بأقل خسائر ليستمر كضابط إيقاع بلطجي للمنطقة، هذا الرفض ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الأمثلة التي تبين كيف يمكن استغلال الفيتو لدعم الأجندات السياسية والعسكرية، متجاهلاً الحقوق والمعاناة الإنسانية.
هذا وحريٌّ بالذكر أنّ مندوبة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، قالت في وقت سابق إن الولايات المتحدة لا تؤيد التصويت على المشروع الجزائري ووعدت بأنه في حال طرحه للتصويت "فلن يتم قبوله". في إشارة لا تخلو من العدائية والمكابرة والنية في تمديد العدوان السّافر على غزة بشكل خاص.
نتائج التصويت كشفت مجدداً عن حالة الاهتراء التي يتسم بها النظام الدولي، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي تتجه نحو مراحل متقدمة وخطيرة، خصوصاً في غزة المحاصرة. العدوان المستمر منذ أكثر من أربعة أشهر خلق وضعاً مأساوياً للفلسطينيين في غزة، حيث استُنزفت الموارد الأساسية اللازمة لبقاء أكثر من مليوني إنسان على قيد الحياة. حيث يلجأ الاحتلال الآن إلى استخدام سلاح التجويع ضد الفلسطينيين، ويرجع ذلك السلاح والاستراتيجية المنحطة للقوى الاستعمارية التي طالما استخدمتهما عبر التاريخ، والتي تركت بصماتها المؤلمة على الإنسانية جمعاء.
إن الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي يحول دون وصول أقل الضروريات إلى غزة، حتى إذا ما تمكنت من الدخول إلى القطاع تستهدفها نيران الاحتلال، وقد كشفت التقارير الأممية وتحليل صور الأقمار الصناعية عن حادثة مروعة بتاريخ 5 فبراير/شباط، حيث أطلق جيش الاحتلال النار على قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة كانت في طريقها إلى شمال القطاع، المنطقة التي تقف على حافة المجاعة. بينما أشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، في تقريرها، إلى أن واحداً من كل 6 أطفال في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، مؤكدةً خطورة الوضع الراهن، وبالأخص في شمال قطاع غزة.
هذه الوقائع تجسد وحشية الاحتلال وتُظهر بجلاءٍ كيف يُستخدم الفيتو كلعبة للسيطرة والبطش الاستعماري، مخلفاً وراءه معاناة لا توصف.
ويبدو أن العالم سيبقى يلعب دور المتفرج على ما يحدث في القطاع من مجازر وحشية يومية. إن استمرار الفيتو بهذه الطريقة يشير إلى ضرورة التفكير في كيفية إعادة هيكلة النظام الدولي ليصبح أكثر عدالة وفعالية. يجب أن تكون هناك آليات جديدة تضمن التوازن بين الحفاظ على السلام وحماية حقوق الإنسان والشعوب، بعيداً عن المصالح الضيقة للقوى الإمبريالية. إن إصلاح حق الفيتو ليس مجرد مسألة قانونية أو دبلوماسية، بل هو تحدٍّ وجودي يجب أن يواجهه المجتمع الدولي بجدية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.