في صباح يوم 21 فبراير/شباط 2024، تقدّمت تركيا خطوة كبيرة إلى الأمام في مجال صناعة الدفاع، وهو أحد المجالات التي أصبحت بارزة فيها على نحوٍ متزايد في العالم. نفذت الطائرة الحربية الوطنية التركية "قآن"، التي تنتجها الشركة التركية لصناعات الفضاء "تاي"، رحلتها الجوية الأولى لمدة 13 دقيقة بنجاح فاق التوقعات، وهو ما أثار إعجاب الجميع. "قآن" هي طائرة مقاتلة من الجيل الخامس قادرة على أداء مهام متعددة في آنٍ واحد، مثل تبادل البيانات مع المنصات البرية والبحرية والجوية وأنشطة الاستطلاع والمراقبة التي تغطي مناطق واسعة وأنشطة الهجوم والدفاع الجوي والعمليات الاستخباراتية والهجمات السيبرانية. يُتوقع ضم المقاتلة "قآن" إلى مخزون القوات الجوية التركية في عام 2028. بهذه الطريقة، ستكون القوات الجوية التركية قادرة على استبعاد طائرات "F-16" الأمريكية تدريجياً من مخزونها العسكري وسد هذه الفجوة بطائرات محلية الصنع. بالتأكيد، هناك رحلة قضاها قطاع الصناعات العسكرية الرائد في تركيا، التي تستعد بإنتاجها المحلي للوصول إلى القمة بأنظمة تسليح برية وبحرية وجوية وسفن ودبابات وطائرات بدون طيار. يمكن تلخيص المحطة الرئيسية في هذه الرحلة في جملة واحدة يعبر عنها المثل التركي: "جار السوء يجعل المستأجر مالك عقار". يعنى هذا المثل أن الجار السيئ لا يعطي الشيء المطلوب منه ويتعيَّن على السائل أن يذهب ويشتري حاجته بنفسه. يتمثّل أحد أكبر الدوافع لتطوير صناعة الدفاع التركية في حقيقة أن تركيا اضطرت إلى إنتاج منتجات لم تستطع الحصول عليها من مكان آخر.
تاريخ موجز للصناعات الدفاعية في تركيا
يمكن إرجاع تاريخ صناعة الدفاع التركية إلى تأسيس البلاد. خلال فترة النضال الوطني، في أوائل عشرينيات القرن الـ20، أخذت تركيا، التي كانت تمر بفترة صعبة، أولى خطواتها في مجال الصناعة الدفاعية. شُيّدت مصانع الأسلحة ومرافق التصليح ومصانع الذخيرة والمعدات العسكرية وبدأ اتخاذ الخطوات المؤسسية لتنظيم عمل تلك المصانع. أنشأ شاكر زومري باي أول مصنع قطاع خاص للصناعات الدفاعية في تركيا عام 1925، حيث أنتج أول طائرة حربية وقنابل يدوية وألغام محلية الصنع. في الواقع، صُدّرت هذه الذخيرة إلى العديد من الدول، من بينها اليونان. بالإضافة إلى ذلك، ثمة شخصيات مهمة كانت من رواد الصناعة العسكرية التركية، مثل وجيهي هوركوش، الطيار التركي الشهير الذي بدأ أول مبادرة لصناعة الطائرات المحلية، ونوري دميراغ، الذي افتتح أول مصنع للطائرات في تركيا وأكمل إنتاج أول طائرة محلية الصنع، ونوري كيليجيل، شقيق أنور باشا، الذي أنتج أنواع مهمة من الذخيرة مثل القذائف المدفعية والقنابل الجوية وقذائف الهاون في عام 1940 وساهم في تطوير الصناعة العسكرية المحلية في القطاع الخاص.
بعد إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1949 وانضمام تركيا إلى الحلف في عام 1952، حصلت تركيا على احتياجاتها العسكرية من دول الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. عندما بدأت العلاقات بين تركيا والاتحاد السوفييتي تتوتر مُجدّداً، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية مع مطالبة السوفييت بالسيادة على أراضي ومضائق تركية، زادت حاجة تركيا إلى التركيز على قطاع الدفاع، وهو ما أدى إلى زيادة اعتمادها على حلف الناتو. في الواقع، قاد هذا الاتجاه تركيا إلى سنوات من الاقتراض الخارجي من أجل تعزيز الاستثمارات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، عززت استراتيجية الولايات المتحدة في الحرب الباردة، مثل "مشروع مارشال"، اعتماد تركيا على الموارد الخارجية. استمرت علاقة تركيا مع الولايات المتحدة في مجال الدفاع على هذا النحو حتى حظر الأسلحة الذي فرضته واشنطن على أنقرة بعد العملية العسكرية التركية في قبرص المعروفة باسم "عملية السلام" عام 1974. ومع ذلك، فتح هذا الحظر أعين تركيا على عدة حقائق. الولايات المتحدة، التي عارضت علناً "عملية السلام" في قبرص، عاقبت تركيا بطريقتها الخاصة وفرضت على البلاد حظر أسلحة بعد تنفيذ تركيا هذه العملية. قوَّض هذا الحظر مصداقية الولايات المتحدة في مجال الدفاع في أعين تركيا وكشف عواقب الاعتماد العسكري الكامل على حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، وهو ما دفع تركيا إلى اتخاذ خطوات مهمة للغاية في مجال الصناعة الدفاعية. تأسست شركة "أسلسان" للصناعات الدفاعية لتلبية احتياجات الجيش التركي من أنظمة الاتصالات العسكرية والإلكترونيات، بالإضافة إلى إنشاء الشركة التركية لصناعات الفضاء "تاي" لتقليل اعتماد تركيا على المصادر الأجنبية في هذا القطاع. وبناءً عليه، كانت الولايات المتحدة سبباً في تمهيد الطريق أمام انطلاق صناعة الدفاع في تركيا.
الطائرات بدون طيار: المنتج المفضل في سلسلة إنجازات الصناعات الدفاعية في تركيا
بعد اكتسابها خبرة كبيرة في مجال الطيران العسكري مع إنشاء شركة "تاي"، أصبحت تركيا مهتمة بالطائرات بدون طيار خلال السنوات اللاحقة. في عام 1989، أضافت تركيا لأول مرة طائرة بدون طيار مستوردة إلى مخزونها العسكري وبدأت العمل على أنظمة الطائرات بدون طيار في شركة "تاي" في عام 1990. في السنوات التالية، اشترت تركيا من إسرائيل طائرات بدون طيار من طراز "هيرون"، لكن لم تستطع أنقرة استخدامها بكفاءة. كثّفت تركيا جهودها في وقتٍ لاحق لتطوير طائرات بدون طيار محلية الصنع بعد رفض الكونغرس الأمريكي أن يبيع لها طائرات بدون طيار أمريكية. بعد جهود مكثفة من أجل تصنيع طائرات بدون طيار محلية، نجحت شركة "تاي" في إنتاج الطائرة المقاتلة بدون طيار "أنكا" في عام 2017، وهي أول طائرة بدون طيار تركية الصنع يمكن التحكم فيها عبر قمر صناعي، فيما يُمثّل إنجازاً مهماً في تاريخ الطيران العسكري التركي. طوّرت الشركة في وقتٍ لاحق طرازين من الطائرات الحربية بدون طيار، وهما "أكسونغور" و"شيمشك"، باستخدام المعرفة المكتسبة من عملية تصنيع الطائرة "أنكا".
من ناحية أخرى، بدأت شركة "بايكار"، وهي إحدى أهم الشركات التي اضطلعت بدورِ رئيسي في تقديم الصناعة العسكرية التركية إلى العالم، العمل على أنظمة الطائرات بدون طيار مع في عام 2000 وأُضيفت طائرتها بدون طيار الصغيرة إلى مخزون القوات المسلحة التركية في عام 2007. حقَّقت شركة "بايكار" أكبر انجازاتها في قطاع الطائرات بدون طيار بانتاجها الطائرة بدون طيار "بيرقدار بي تي 2″، التي كانت قد بدأت أنشطة تطويرها في عام 2007. دخلت الطائرة "بيرقدار بي تي 2 " الخدمة في عام 2015 وبرزت إلى الواجهة تحديداً خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث أثبتت نفسها بنجاح في ميدان القتال.
حققت تركيا نجاحاً في مجال تصدير الطائرات بدون طيار. صدّرت البلاد لأول مرة طائرة "بيرقدار تي بي 2" إلى قطر في عام 2018، ثم إلى أوكرانيا في عام 2019. لكن النجاح الأبرز تحقق بتصدير طائرات "بيرقدار تي بي 2" إلى بولندا في عام 2021. كانت هذه أول مرة يحدث فيها تصدير طائرة بدون طيار إلى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وقّعت تركيا حتى الآن اتفاقيات تصدير مركبات جوية مقاتلة بدون طيار مع 33 دولة -32 طائرة من طراز "بيرقدار تي بي 2" و8 طائرات من طراز "بيرقدار آقنجي".
الطائرة المقاتلة الوطنية "قآن"
الطائرة "قآن" هي طائرة مقاتلة متعددة المهام من الجيل الخامس، وتعتبر الشركة التركية لصناعات الفضاء "تاي" المتعاقد الرئيسي لها. توفر المقاتلة "قآن" قدرات فائقة لمتطلبات القتال الجوي والهجوم البري. ومع امتلاكها ميزات مثل الضربات الدقيقة بسرعة عالية وسرعة أكبر من سرعة الصوت والقوة القتالية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، سوف تقود الطائرة "قآن" تركيا لتصبح مورداً للطائرات المقاتلة من الجيل الخامس، التي لا تنتجها سوى عدد قليل من الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين.
أبدت دول العالم ردود فعل إيجابية بعد تنفيذ الطائرة "قآن" رحلتها الأولى. أعربت روسيا، من خلال ممثلها الدبلوماسي، عن اهتمامها بالتعاون العسكري والتقني مع تركيا بعد نجاح تحليق "قآن". أعرب أيضاً الممثل الدبلوماسي لأوكرانيا عن اهتمامه بشراء طائرات "قآن" من تركيا. من ناحية أخرى، حظيت الرحلة الأولى لـ "قآن" بتغطية واسعة في الصحافة العالمية. قالت صحيفة "Welt" الألمانية إن "هذا الإنجاز يسجل صعود تركيا إلى صفوف الدول المنتجة للطائرات المقاتلة". في السياق ذاته، أفادت الصحافة اليونانية بأن تركيا بطائرتها المحلية "قآن" أصبحت واحدة من الدول القليلة جداً المنتجة لطائرات مقاتلة من الجيل الخامس.
من ناحية أخرى، نفذت شركة "بايكار" في عام 2022 التحليق الأول لطائرتها "بيرقدار قزل إلما"، وهي طائرة مقاتلة بدون طيار من الجيل السادس. صُمّمت المقاتلة التركية "بيرقدار قزل إلما" لتكون قادرة على القتال الجوي بكفاءة بفضل قدرتها العالية على المناورة الجوية والإقلاع والهبوط من السفن ذات المدارج القصيرة وتتمتع بسعة حمولة تصل إلى 1500 كيلوغرام. من المقرر أن تدخل المقاتلة "بيرقدار قزل إلما" مرحلة الإنتاج التسلسلي هذا العام.
مكانة تركيا في مجال الصناعات الدفاعية
أصبحت تركيا في السنوات الأخيرة دولة مكتفية ذاتياً وجهة فاعلة دولية في مجال الصناعات الدفاعية بمئات المنتجات المحلية في فئات مختلفة مثل المركبات البرية والبحرية والجوية والأنظمة الفضائية والأسلحة الثقيلة والخفيفة وأنظمة الرادار وأنظمة الحرب الإلكترونية والاتصالات والأنظمة الأمنية المتكاملة. اكتسبت الصناعة الدفاعية التركية سمعة عالمية جيدة على نحوٍ متزايد. ارتفع عدد الشركات التركية المدرجة في القائمة الأمريكية المرموقة لأفضل 100 شركة "صناعات دفاعية" حول العالم إلى 4 شركات في عام 2023. ارتقت شركة "أسلسان" التركية إلى المرتبة 47 في تلك القائمة، مقارنةً بالمرتبة 49 العام الماضي، مع حفاظها على مكانتها في مركز الصدارة بين الشركات التركية المحلية. من ناحية أخرى، حققت شركة "تاي" تقدماً كبيراً من المرتبة 67 إلى المرتبة 58. وصلت أيضاً شركة "روكيتسان" التركية للصناعات الدفاعية إلى المرتبة 80 في عام 2023، بعد أن كانت في المرتبة 86. أما المرتبة الـ100 كانت من نصيب شركة "أصفات" التركية لإدارة المصانع العسكرية وأحواض بناء السفن، التي أدرجت في القائمة لأول مرة.
حققت الصناعة الدفاعية التركية، التي تصدر 230 نوعاً من المنتجات إلى 185 دولة في مناطق جغرافية مختلفة، تقدماً كبيراً فيما يخص حصتها في السوق العالمية. اعتباراً من العام الحالي، وصل قطاع الصناعات العسكرية في البلاد إلى بنية عملاقة تُنتج معدات ذات قيمة مضافة عالية تُقدّر بـ 12.2 مليار دولار على أساس سنوي ويُصدّر بنحو 4.4 مليار دولار ويعمل به 81,132 شخصاً. من بين أهم مصدري الصناعات الدفاعية التركية، تحتل شركة "بايكار" المرتبة الأولى بحجم صادرات قيمتها 1 مليار 766 مليون دولار، تليها شركة "تاي" بحجم صادرات قيمتها 864 مليون دولار، ثم شركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية "إم كي اي" بصادرات قيمتها 439 مليون دولار.
الصناعة الدفاعية ورؤية "القرن التركي"
أدى فشل تركيا في استلام أنظمة الدفاع الجوي "إس 400" التي طلبتها من الولايات المتحدة، والتزود بهذه الأنظمة من روسيا، إلى اتخاذ الولايات المتحدة قراراً منفرداً بإزاحة تركيا من مشروع "إف 35″، الذي كانت شريكاً فيه، بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (CAATSA). واستمرت هذه الأزمة خلال مفاوضات تركيا مع الولايات المتحدة لتحديث طائرات "إف 16". لكن بدأت الولايات المتحدة، التي قاومت هذه المفاوضات لفترة من الوقت، في تبني وجهة نظر أدفأ تجاه هذه العملية بعد موافقة تركيا على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن المتوقع تحديث الطائرات في أقرب وقت ممكن. وستعمل طائرات "إف 16" المُحدَّثة على تقوية قبضة تركيا من حيث القدرات الجوية حتى عام 2030. وبعد عام 2030، ستحل طائرات قآن (KAAN) التركية محل "إف 16" في نظام الدفاع الجوي. وبالتالي، ستكون تركيا قد استحوذت على ورقة رابحة مهمة استخدمتها الولايات المتحدة عدة مرات ضد تركيا لسنوات.
وليس هناك شكٌ في أنَّ الإنجازات التي حققتها تركيا في مجال الصناعة الدفاعية كانت مدفوعة بنهج "القرن التركي". وبالإضافة إلى تلبية احتياجاتها الخاصة، فإن منتجات الصناعة الدفاعية الوطنية في تركيا، التي وصلت إلى رقم تصديري كبير، تثبت أنَّ تركيا ليست قوة إقليمية فحسب، بل أيضاً مرشحة لتكون قوة عالمية. وقد زادت الحاجة إلى منتجات الصناعة الدفاعية في العالم زيادة ملحوظة في السنوات الأخيرة. والسبب الأول لهذه الحاجة هو تطور النظام العالمي نحو الأقلمة. فقد أظهرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا أنَّ نظام الأمم المتحدة، الذي من المفترض أن يحظر استخدام العنف ويضع حداً للحروب بين الدول، يتآكل بدرجة خطيرة. وفي مثل هذه الحالة، تميل الدول إلى تأمين نفسها من خلال الاستثمار في الصناعات الدفاعية.
ويتمثل السبب الآخر في الدول الفاشلة أو غير المستقرة والتهديدات التي تشكلها. إنَّ الهياكل غير المستقرة مثل سوريا واليمن والسودان والعراق لا تشكل تهديدات مباشرة لدول المنطقة فحسب، بل تخلق أيضاً نزاعات بين هذه الدول نفسها، ما يؤدي إلى تأجيج الصراعات. ولهذه الأسباب، توفر الحاجة إلى منتجات الصناعة الدفاعية في العالم مجالاً كبيراً من التأثير للدول التي تستطيع تغيير قواعد اللعبة في هذا المجال. وباعتبارها جهة فاعلة صاعدة في هذا المجال، تتمتع تركيا بفرصة جيدة لتعزيز سياستها الخارجية المستقلة ودعمها في المجالين الدبلوماسي والعسكري.
ويأتي سطوع نجم تركيا في صناعة الدفاع في وقت يشهد فيه هذا المجال منافسة دولية شديدة في إنتاج الأسلحة المتطور. وتسعى القوى الدفاعية التقليدية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول الأوروبية إلى الاستمرار في السيطرة على السوق بقدراتها المتقدمة وشبكات التصدير الواسعة. ومع ذلك، فإن تركيا، باعتبارها لاعباً صاعداً، تثير تساؤلات حول الوضع الراهن من خلال تقديم بدائل تنافسية وتغيير ديناميكيات السوق القائمة. وذلك لأن سياسات التصدير الدفاعية في تركيا أكثر توازناً وأسعار المنتجات أكثر معقولية. وهذا يجعل تركيا بديلاً جيداً للعالم أجمع. وفي السنوات المقبلة، يبدو من المحتمل جداً أن تتحول تركيا لمُصدِّر صناعات دفاعية تُفضِله الدول الغربية أيضاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.