لم أبتلع، لحظةً، استمرار الحفلات والمهرجانات الغنائية، بوتيرة غير مسبوقة، منذ اندلاع طوفان الأقصى وحتى الآن، كنت، في كل مرة، أرى فيها حفلاً، أشعر بالضيق، وأتذكر تلك العادة القديمة في شوارعنا المصرية، حين يموت شخص في بيت، فيخجل الجيران من تشغيل التلفزيون، أو حتى الراديو، اللهم إلا إذاعة القرآن الكريم، في منازلهم، من باب احترام مشاعر الآخرين، هكذا تتأجل المناسبات السعيدة، من أعياد ميلاد، وحفلات خطوبة أو زواج، وإن تمت، عقب فترة كافية، فتخرج من دون مظاهر احتفال، لا زغاريد، ولا ألوان زاهية، تقديراً لأمر الموت، الجلل.
ربما لهذا يمكن فهم موقفي وانطباعي من نانسي عجرم التي التقطت صورة بصحبة مدون السفر الإسرائيلي إتزيك بلاس، ونادين نجيم نسيب، التي اختارت من بين كل المشروبات على كوكب الكرة الأرضية، تلك العبوة الرخيصة بالذات، لتلتقط صورة بصحبتها، لتؤكد، بقصد أو من دون قصد أنها لا تكترث لكل تلك الدماء هناك في فلسطين.
أين الإحساس؟ أنا لا أراه!
خلف الميكروفون، يقفون، يغمضون أعينهم بعمق، ويتقمصون أقصى درجات الشعور، لكنني مع كل مرة، أتأملهم متسائلة: أي إحساس يمكن أن يدفع شخصاً لأن يغني ويرقص، في وقت يباد فيه شعب كامل؟ ما هو نوع الإحساس الذي يستخدمونه يا ترى؟ حسناً، ربما الأمر يتعلق بـ"أكل العيش" أو كما قال أحدهم يوماً ما، أن هذا عمل، مثل كل عمل، وإن توقفوا هم عن الغناء، فليتوقف الجميع عن الذهاب لعمله، حسناً، ليكن، هكذا ابتلعت الأمر على مضض وصرت كلما رأيت حفلاً، أدير وجهي وأقول: "أشخاص يؤدون عملهم"، لكن بقي داخلي شك بشأن إحساسهم، كل مطرب، خرج خلال الفترة الأخيرة، على المسرح، ليغني ويرقص، سقط من نظري، لم ينج من ذلك سوى قلة قليلة، أبدوا ما يحفظ ماء وجوههم لاحقاً، والأمر ذاته بالنسبة للممثلين داخل الوطن العربي وخارجه.
نطبِّع اليوم ونتبرأ غداً
أحياناً يكون خطأ واحد، بأخطاء العمر كاملة، وهذا ما جرى من قبل مع محمد رمضان، الذي وقع في فخ التطبيع، مرة في أغسطس من عام 2022 حين التقط صورة له مع فتاة إسرائيلية، ومن قبلها، الصورة الشهيرة من الحفل الذي دعي له رمضان في فندق شهير بالإمارات، وعلى نغمات موسيقى إسرائيلية رقص الجميع، بينما تضمن الحفل صورة لرمضان، وعن يساره الإماراتي حمد المزروعي المؤيد لتطبيع علاقات بلاده مع إسرائيل، والمغني الإسرائيلي عمير آدم، وهي الصورة التي نشرتها وقتها صفحة إسرائيل بالعربية تحت عنوان "الفن دوماً يجمعنا".
أمعن رمضان في الرد وإعلان براءته، لكن الوصم طاله، تماماً كما طال نانسي عجرم، التي لم يبدُ اعتذارها مقبولاً، خاصة أنه يأتي عقب التقاط صورة لها مع إحدى الإسرائيليات في الصيف الماضي، ومع استمرار فعالياتها عموماً، دون أن تأتي ولو لمرة على ذكر ما يجري هناك كأن شيئاً لا يحدث!
القصة ذاتها تكررت وفي نفس التوقيت مع الفنانة نادين نسيب نجيم، حين نشرت صورة لها وهي تتناول وجبة رخيصة من سلسلة المطاعم الشهيرة، التي يقاطعها المتضامنون حول العالم، مع فلسطين، ماكدونالدز، لم أدرِ ما الداعي حقاً لمثل تلك الصورة، سوى أن القدر أراد أن يفضح المواقف وإن استترت، التي لم تفلح معها أيضاً التبريرات والشروحات.
بعض "الخِشَى" مطلوب
البعض ما زال يملك بعض "الحياء"، هكذا يقومون بعملهم، ولا ينكرون القضية، تماماً كما فعل محمد عادل إمام، وشقيقه، حين ذهبوا لاستلام جائزة باسم والدهما، عادل إمام، ولم يفتهما توجيه التحية للشعب الفلسطيني البطل، قائلاً: "إنتو في القلب وعمرنا ما هاننساكم أبداً".
الأمر يشبه غسل اليدين من تهمة الخذلان، وهو أمر كافٍ بالنسبة للكثيرين للتفرقة بين قوائم "شرف" وأخرى لـ"القرف" تضم الفنانين، غسيل يدين مقبول، خاصة إذا تم بالطريقة الصحيحة، كما هو الحال مع "الكينج" محمد منير، الفنان المحبوب الذي لا يفوته في حفلاته، الختام بالكوبليه ذاته: "أقسمت بالحرية وعدالة القاضية.. القدس عربية لآخر يوم حياة". كلما سمعتها بصوته اقشعر بدني، لفرط صدقها، الفنان السبعيني لا يضطره شيء لأي من هذا، كما لم يضطره شيء في حفله الأخير، بدار الأوبرا، حين خرج، مصاب الذراعين، بادي المرض الشديد على وجهه، ليؤكد على دعمه للقضية، ويظهر مرة أخرى بالشال الفلسطيني، مردداً الكوبليه ذاته في ختام حفله.
فن الاختيار
لا أشك أن مواقف المشاهير صارت فرازة، لا أنسى قول صديقتي إنها اتخذت قراراً بالتوقف عن مشاهدة أي أفلام جديدة لممثلها المفضل مايكل دوجلاس بعد أن قام بالتوقيع على رسالة ضمن عدد ضخم من مشاهير هوليوود، ودعم الاحتلال الإسرائيلي، 700 على قائمة الخذلان والعار مقابل 20 فقط على قائمة الشرف من بينهم سوزان ساراندون، التي قررت على مستوى شخصي إنتاج أعمالها بعين جديدة.
فن الاختيار كما يجب أن يكون جاء بجلاء في صورة الفنان المصري محمد سلام الذي رفض السفر إلى أداء مسرحية راقصة، وقال إن هذا يتناقض مع مبادئه مؤكداً: "مقدرش أضحك الناس واخواتي بيموتوا في غزة"، وهو الموقف الذي أضاف لرصيد سلام، بينما انتقص من رصيد ممثل آخر كان محبوباً فصار مغضوباً عليه هو الفنان المصري بيومي فؤاد، حين انتقد موقف سلام وشارك في المسرحية المذكورة، فحظي بهجوم لاذع جداً.
الأمر ذاته ينطبق على مشاهير كرة القدم، ففي الوقت الذي وجد بعضهم نفسه، يدفع ثمن تضامنه ورأيه مثل اللاعب كريم بنزيما، والذي لم يكد يكتب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي إكس: "كل صلواتنا من أجل سكان غزة الذين يقعون مرة أخرى ضحايا لهذه القصف الظالم الذي لا يستثني النساء ولا الأطفال" حتى هاجمه وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانين، متهماً إياه بالانتماء لجماعات محظورة، بينما طالب برلمانيون فرنسيون سحب الجنسية الفرنسية منه وكذلك جائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم 2022، الثمن ذاته دفعه الجزائري يوسف عطال، حيث أعلنت اللجنة التأديبية بالاتحاد الفرنسي لكرة القدم إيقاف لاعب فريق نيس بسبب دعمه لفلسطين ضد قصف الاحتلال الإسرائيلي، وذلك طوال 7 مباريات، عقب إعلان تضامنه مع فلسطين ولم يختلف الأمر مع اللاعب أنور الغازي لاعب فريق ماينز الألمانية، والذي تم فسخ العقد معه.
يأتي هذا في الوقت الذي لم أعد أحتمل، أنا وكثيرون غيري، رؤية اللاعب المصري محمد صلاح، الذي جاء تضامنه مع القضية باهتاً، ومائعاً لا يسمن ولا يشفي من جوع، لم أعد أنظر له كما كان الناس يدعونه بـ"فخر" العرب، انضم إلى المسافة الرمادية بين المع والضد، فصار موقفه بلا معنى.
برأيي أن تلك القوائم، ستظل لسنوات طويلة قادمة، تعيد تشكيل الجماهير، والنجوم المفضلين، صحيح أن "آفة حارتنا النسيان" كما قال نجيب محفوظ، لكن بعض الأمور لا يمكن نسيانها أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.