رواية "دون كيشوت" لميغيل دي ثيربانتس، التي نُشرت في القرن السابع عشر، تعد واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ. تسرد الرواية مغامرات شخصية دون كيشوت، النبيل الإسباني الذي يفقد عقله بعد قراءة العديد من قصص الفروسية، ويقرر أن يصبح فارساً متجولاً، مطارداً للمعارك والأحلام الوهمية برفقة رفيقه سانشو بانزا. تحولت الرواية إلى رمز للنبل والسعي وراء الأوهام والمثل العليا غير القابلة للتحقيق، وهي تقدم رؤية نقدية وفكاهية للواقع.
في عصرنا اليوم، يمكن القول إن العديد من الأفراد يعيشون في ظل ما يشبه حالة دون كيشوتية، لكن لا من أجل البحث عن الفروسية، بل مطاردين أحلاماً وهمية ومعارك غير موجودة من أجل قيم مادية، متخلين عن مسؤولياتهم وقيمهم الأساسية مثل العائلة، الأخلاق، والمبادئ. هذا السلوك وثقافة الحياة التي تجتاح عالمنا اليوم، عبّر عنها عالم الاجتماع زيجمونت باومان في تحليلاته، خاصةً مفاهيمه حول "الحياة السائلة"، وهو المصطلح الذي صاغه باومان لوصف عالمنا الذي يتسم بالتغيير المستمر وعدم اليقين.
دون كيشوت في عصر الحداثة
زيجمونت باومان، في كتابه "الحياة السائلة"، يصف حالة الحداثة السائلة حيث كل شيء قابل للتغير ولا شيء يدوم. يعتبر باومان أن هذه السيولة تؤدي إلى عدم اليقين والقلق في حياة الأفراد، ما يجعلهم يسعون وراء أهداف وأحلام غير واقعية، في محاولة لإيجاد معنى في عالم يفتقر إلى الثبات والأمان.
كلنا دون كيشوت، بأحلامه الكبيرة ومعاركه ضد طواحين الهواء، يجسد الصراع الأبدي بين الحلم والواقع. هذا الصراع يعكس التحديات التي يواجهها الأفراد في عصر الحداثة السائلة، حيث الأحلام الكبيرة قد تبعدنا عن التركيز على ما هو مهم وملموس. باومان يناقش كيف أن السعي وراء السعادة والتحقيق الذاتي في عالم سائل يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الواجبات والمسؤوليات الأساسية. إذ يوضح أن العالم الذي نعيش فيه، عالم نتوق فيه للثبات ولكننا لا نجد فيه غير السيولة والتحول الدائم.
مثل دون كيشوت، يجد العديد من الأفراد أنفسهم اليوم متورطين في معارك وهمية، سواء أكانت على وسائل التواصل الاجتماعي، في السعي وراء الشهرة والثروة، أم في محاولة لتحقيق نجاحات زائفة، في عالم لا يضع معايير ثابتة من الأساس، ويتجاهلون القيم الأساسية والثابتة مثل الصدق، والعمل الجاد، والالتزامات العائلية، معتبرين أن هذه القيم قد عفا عليها الزمن أو أنها لا تتوافق مع متطلبات العصر الحديث السريع.
مغامرات دون كيشوت، رغم كونها مضحكة ومأساوية، تقدم لنا دروساً قيمة حول الحياة والطموح. في عالم اليوم، حيث السعي وراء الأهداف الوهمية والمعارك الزائفة يبدو أنه أصبح القاعدة، لذا وجب التذكير بأهمية التمسك بالمبادئ والقيم الأساسية، إذ يصعقنا تحليل باومان للحياة السائلة الذي يجبرنا على إعادة التفكير في أولوياتنا والبحث عن معنى حقيقي في عالم يتميز بالتغير المستمر. إذ يشير باومان في كتابه "الحياة السائلة" أننا في عالم السيولة، يجب أن نجد ثباتنا في القيم والمبادئ وليس في مطاردة الأوهام.
وذلك يذكرنا بأهمية البحث عن معنى وقيمة حقيقية في عالم يتزايد فيه الشعور بعدم اليقين والسيولة. وأؤمن أن الالتزام بالأخلاق والمبادئ والقيم العائلية يمكن أن يوفر لنا الأرضية الثابتة التي نحتاجها في مواجهة التحديات والتغيرات السريعة التي تميز عصرنا.
إن رواية دون كيشوت وتحليلات زيجمونت باومان تلقي الضوء على مفارقات الوجود الإنساني والبحث عن المعنى في عالم يتسم بالتغير السريع وعدم الثبات. دون كيشوت، بمعاركه الوهمية وأحلامه العظيمة، يشكل مرآة للإنسان الحديث الذي يسعى وراء طموحات قد تبدو في بعض الأحيان بعيدة عن الواقع والمسؤولية. في الوقت نفسه، يذكرنا باومان بأهمية البحث عن ثبات ومعنى في القيم الأساسية التي تتجاوز السعي وراء النجاحات الزائفة والإشباع الفوري للرغبات.
ومن هنا، يبرز السؤال الأساسي: كيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والغاية في عالم يتغير باستمرار؟ الجواب يكمن في العودة إلى جوهر الإنسانية نفسها، في التمسك بالعلاقات الإنسانية، والأخلاق، والقيم التي تربطنا بما هو أساسي ودائم، بعيداً عن الزيف والأوهام.
يتطلب منا هذا التوجه جرأة وصدقاً مع الذات، مستلهمين من قصة دون كيشوت الحقيقة قبل فوات الأوان لمواجهة الواقع بكل تعقيداته، محافظين على الأمل والإيمان بالقيم التي تحمل معنىً أعمق وأبقى. لعلنا في نهاية المطاف، نتوج مساعينا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا حياة حقيقة لا وهم فيها. إذ يمكننا أن ننظر إلى معاركنا الوهمية كفرصة للتفكير فيما نقدره حقاً وما نسعى إليه في هذه الحياة، مع إعادة تقييم أولوياتنا بما يخدم تحقيق حياة مفعمة بالمعنى والغاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.