لم تكد الحلقات الأولى من مسلسل حالة خاصة تنطلق حصرياً عبر منصة (Watch It) حتى أذهلتني كل تلك التعليقات التي انطلقت تقول في المسلسل أشعاراً، بداية من القصة، مروراً بالأداء، وعدداً من التفاصيل الأخرى، لذا ذهبت بفضول لأتابع عملاً اكتشفت لاحقاً أنه قد يصبح على رأس قائمة أفضل 5 مسلسلات خلال 2024 ما لم ينافسه عمل آخر قريباً، توليفة مثيرة، يمكن تلخيصها في خمسة أسباب أساسية وضعته بالنسبة لي في قائمة "المفضلة".
مسلسل حالة خاصة.. لأنه أدخلنا في "عالم المتوحدين"
لن أنسى ذلك الفتى أبداً، أحمد مسلم، الشاب الذي تعرفت إلى والدته بالصدفة، وكانت تقطن في مكان قريب منّي، أرملة ليس لها في الحياة سوى ابنها أحمد، وهو فتى "متوحد"، لكنه لم يكن عادياً، كانت كاميرات التلفزيون تطاردها وابنها الطيب جداً، الذي يرفض التلامس بأي شكل، ويكره الأصوات العالية، ويضايقه الزحام بشدة، لكنه يملك قدرة غريبة جداً على الحفظ، كان أحمد يحفظ القرآن كاملاً، دون أن يعلمه أحد، بالتلاوة، وأرقام وعدد الآيات، والسور، برقم الصفحة، وعدد الآيات وأسباب النزول، ومكانه، فقط اسأله عن رقم آية أو رقم صفحتها وسوف يذكرها لك فوراً، بمنتهى الدقة.
كنت مهتمة للغاية أن أعرف كيف فعلتها والدته، لذا وفي إحدى زياراتي الودية لهما، سألتها عن السر الكبير، لكن المرأة النوبية الطيبة لم يكن لديها ما تخبرني به، فقط روت لي كيف وُلد في السعودية، وكانت تتركه أوقاتاً طويلة في طفولته العامرة بالحوادث، والصراخ، والمعاناة، أمام قناة القرآن الكريم، فصار يحفظ وحده، القرآن بالإنجليزية والفرنسية، تماماً كما يقرأ المقرئ، دون معلم، حتى صار معجزة في محيطه، كنت أحب زيارته فقط لأسمع القرآن منه، بطريقته الملائكية الطيبة جداً، ربما لهذا
ربما لم يعرض مسلسل حالة خاصة جانباً آخر مختلفاً تماماً من المعاناة، التي لا تعلمها سوى أمهات أطفال التوحد، والمحيطين بهم، كل تلك الليالي الحزينة التي ينعدم فيها التواصل مع أقرب الناس، أطفال لا يرغبون في الأحضان أو التلامس، تثور ثائرتهم في الزحام، ووسط الصخب، أطفال لا يكفون عن إلحاق الأذى بأنفسهم، وبالآخرين، لا يتحولون إلى عباقرة بالصدفة، فالأمر يحتاج إلى مجهود ضخم، فقط كي يبقى الطفل على قيد الحياة، بعيداً عن كل المخاطر التي يتعرض لها مرة بعد أخرى بسبب التوحد، في كل لحظة، وهي المعاناة التي يرتبط حجمها بدرجة التوحد، مع ذلك، أتعامل مع المسلسل على طريقة "نصف العمى ولا العمى كله"، أخيراً تحدث أحدهم بشكل منصف عن فئة منسية تماماً!
مسلسل حالة خاصة: وصل مشاعر بلا مشاعر!
ربما كان عنصر التميز الأكبر في هذا العمل، هو الممثل الشاب طه الدسوقي نفسه، حيث واجه تحدياً هو برأيي مرعب، كيف يمكن للمرء أن يقوم بتوصيل مشاعر قوية من دون إبداء مشاعر؟
الشخص المتوحد لا يستطيع توصيل المشاعر، ويكره التلامس، لا يعبر بوجهه عن أي مشاعر تقريباً، وقد أتقن الدسوقي التعبير عن كل تلك الأمور جميعاً بقوة، إضافة إلى حركات جسده، فأبدع باللغة غير المنطوقة بشهادة الجميع، مع ذلك استطاع إرسال كل أنواع المشاعر، للمشاهد، بكفاءة، الحزن، الفرحة، القلق، الضيق، السعادة، الإحباط، وغيرها من المشاعر المختلطة، عبر وجه لا يحمل تعبيرات لشخص متوحد.
حسناً، بحسب المراجع، يعاني أطفال التوحد من التالي:
عدم القدرة على معرفة إن كان المتوحد يشعر بالسعادة أو الغضب أو الحزن، من خلال تعبيرات وجهه أو لغة جسده.
بطء الكلام
تكرار كلمات الآخرين
التحدث بإيقاع صوتي وطبقة صوت مختلفة عن الآخرين
عدم مشاركة الأفكار والمشاعر مع الآخرين
عدم الاهتمام بتكوين صداقات
تفضيل اللعب بمفردهم
الانزعاج الشديد من حدوث أي تغيير كالحصول على ألعاب أو ملابس جديدة
الانزعاج من نكهات أو روائح معينة
الاهتزاز ورفرفة اليدين أو الدوران
ضرب الرأس أو عض الجسم
تكرار أفعال معينة مثل مشاهدة الفيلم ذاته مراراً وتكراراً أو تناول نفس الطعام في كل وجبة
اهتمامات غير مألوفة مثل الاهتمام الشديد بالمكنسة الكهربائية أو مروحة السقف.
ربما لهذا كله كان أداء طه الدسوقي احترافياً بحق، لكنه لم يأتِ من فراغ، حيث اتضح أن هناك نديماً أصلياً بالفعل، التقط بصحبته طه الدسوقي مقطع فيديو يشكره خلاله على كل تلك الأمور التي تعلمها منه، وكيف أن الشاب الأصلي، ساعده على مذاكرة الشخصية وتفاصيلها بقوة، وهو ما يظهر تميزه إذا ما تمت مقارنة أدائه بأداء مايان السيد مثلاً في "حكاية حلم حياتي" ضمن حكايات مسلسل "إلا أنا".
أعادنا إلى تفاصيل قديمة.. جميلة
تفصيلة بسيطة جداً، تمت زراعتها في الأحداث بنجاح، فأخذت المسلسل بالكامل إلى منطقة محبة، ربما لم يكن ليصل إليها لو لم تكن أغاني فرقة المصريين، حاضرة بهذه النعومة، أعد هذا التوظيف العظيم ضمن الأحداث، بمثابة "جون" خاصة أن أغاني المصريين كانت تصاحب نديم، طوال الوقت، هكذا أعاد المسلسل للأذهان فن جميل رقيق، لا ينتمي لكثير مما أراه اليوم، وقد تم التركيز على عدد من الأغنيات أهمها:
- لما كان البحر أزرق: "لما كان البحر أزرق والنجوم لسَّة في مكانها وطيور بتحلم فوق الشجر كل يوم، لما كان ممكن أصدق إن السعادة كلمة واحدة، ما كنتش هاقدر أقرأ ما بين السطور".
- الشوارع حواديت: "الشوارع حواديت، حواديت الحب فيها، وحواديت عفاريت، واسمعي يا حلوة لما اضحكك، الشارع دا كنا ساكنين فيه زمان كل يوم يضيق زيادة عن ما كان أصبح الآن بعد ما كبرنا عليه زي بطن الأم مالناش فيه مكان".
- ابدأ من جديد: "مهما كان حلمك بعيد، مهما كان صعب عليك، حتى في نهاية الطريق، ابدأ من جديد، في حاجات كتير بين إيديك، الكون أسرار عايشة فيك، والشمس الصبح بتناديك".
- هزني: "هزني هزني من جوا هزة بقوة، غير كل خرايط الكون غير مواعيد وساعات اليوم، غير ترتيب أيام الشهر، غير ألوان السما والبحر".
- أوقات أشوف ملامحك: "أوقات أشوف ملامحك في صوتي في المراية، وأحس الشوق في قلبي، واخدني للنهاية، أغمض عيني لحظة، وألاقي إنك معايا، إيدك ماسكة إيدي".
مبالغات.. نحبها
واحدة من أبرز وأكثر التفاصيل دفئاً كانت شخصية "عم جميل" وهو رجل لطيف، طيب، قرأت اعتراضات عديدة حول المثالية الشديدة التي بدت بها شخصية الرجل، لكن من قال إننا لا نحتاج إلى بعض من اللطف "الصناعي" وكثير من الجمال ولو كان "تمثيلاً" من منا لا يرغب في واحد مثل عم جميل في حياته، كل هذا اللطف، وتلك الدماثة، نعم عم جميل شخصية مبالغ بها، ليست موجودة بهذا القدر في الواقع، ربما لندرة وجود هذا الجمال في الحقيقة، اخترعناه في مسلسل، ونحتفي به الآن، المجد لعم نديم، الرجل الطيب، المخلص، الجميل الناصح الأمين، الذي يجيد التربيت على الكتف، والتفاهم، ومنح الحب، والاحترام.
اقتباس موفق
الكثير من النقاط التي كانت لتصبح "ضعفاً"، لكنها تحولت بطريقة أو بأخرى إلى عناصر قوة، ففي الوقت الذي واجه فيه مسلسل حالة خاصة، منذ اللحظة الأولى، تهمة "سرقته" من مسلسلات أجنبية، أحدها كوري، والآخر أنتجته نتفليكس، بدت التفاصيل في ثلاثتهم واحدة تقريباً، بحيث بدا من الصعب التعرف من أخذ من من، مع وضع الأقدمية في الاعتبار، خاصة عقب نفي مؤلف العمل أنه قد يكون منقولاً، بصرف النظر عن النفي فالأمر يبدو مقبولاً، وإن لم نكن نتحدث عن الفكرة، فنحن نتحدث عن تفاصيل دقيقة جاءت على طريقة القص واللصق، كما هو الحال في لقطة الشاهدة التي تحولت إلى متهمة، كان الدافع المذكور هو ذاته بالضبط الذي استخدمته بطلة فيلم Legally Blonde.
عموماً، بعض الأمور تبدو مقبولة بالنظر للنتيجة النهائية، يكفي أن المؤلف اختار تلك الفكرة بالذات للعمل عليها، رأيت في النهاية مسلسلاً متقناً، البطل فيه مصاب بـ "اضطراب التوحد"؛ لذا بقيت القصة بالنسبة لي قيد "المقبول"؛ حيث العديد من التفاصيل المميزة، والدمج الحقيقي لذوي الهمم في عمل تلفزيوني لقي ما يكفي من القبول والمشاهدة، وهو أمر برأيي يشفع لأي شيء سواه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.