بدأنا عام 2024 وإذ بنا نصاب بفاجعة وفاة أستاذنا الحقوقي ورئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية، الدكتور أحمد بن الطاهر المناعي، الرجل عرفناه مناضلاً عنيداً في أوروبا لما كان مهاجراً ولاجئاً سياسياً في عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.
ورغم سيرته الثرية وكتاباته باللغتين إلا أن كثيراً من المهتمين بالفكر والثورة الجزائرية والحريات والتاريخ المغاربي عموماً، لا يعرفون عنه إلا القليل.
أحمد المناعي.. سيرة ومسيرة
وُلد عام 1942 بمدينة الوردانين التونسية، ومن أكبر أمانيه في حياته زيارة الجزائر، لا بل تطوع في عام 1961 للجهاد في الجزائر فقيل له الجزائر في طريقها للاستقلال اذهب لإتمام دراستك، ورغم ذلك ومع بداية استقلال الجزائر عام 1962، حلَّ بها ضيفاً كأستاذ للرياضيات في التعليم الثانوي بالعاصمة صدفة وقدراً قادماً من فرنسا، وبعد عام 1964، عاد إلى فرنسا لإتمام دراسته الجامعية، في كل من جامعتي قرونوبل وباريس، حيث ناقش رسالة الدكتوراه في الاقتصاد الفلاحي ليصبح خبيراً في التنمية الفلاحية لدى منظمة الأمم المتحدة، وتنقل بين الجزائر وتونس وأوروبا في مناسبات عديدة وبلا مناسبات محاضراً ومناضلاً، كما نشرح ذلك في مسيرته الغنية، المختصرة أدناها في محطات مقتضبة.
المناعي وعلاقته بجزائر الاستقلال والشيخ الإبراهيمي وجمعية العلماء
عن كيفية تعرفه على جمعية العلماء وشيخها الجليل البشير الإبراهيمي، كتب أحمد المناعي: "في بداية الستينات لما وصلت للجزائر وجدت طالباً يوزع جريدة بالفرنسية فلما اطلعت على محتواها، طلبت مساعدته في نفس اليوم، من ذلك التاريخ، أصبح الصديق رشيد بن عيسى دليلي في العاصمة الجزائر، وإذا بشيخ مهيب يعترضنا -يوماً- ويتوقف رشيد لتحيته، وتوقفت بدوري لأسلم على الرجل. سأله رشيد عن أحواله وأحوال سي أحمد وتبادلا التمنيات ثم عبارات الوداع. لم يطل اللقاء وقد كنت على قصره مبهوراً بقامة الرجل ووقاره. عندما انصرفنا سألني رشيد إن كنت أعرف الشيخ؟ فأجبته بالنفي، فقال لي إنه الشيخ البشير الإبراهيمي من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وسي أحمد الذي سألته عنه هو ابنه ( أحمد طالب الإبراهيمي) وهو الآن في السجن لأسباب سياسية!
مضيفاً بقوله: "حدثني رشيد عن جمعية العلماء التي سمعت باسمها من قبل لكن ليس أكثر من ذلك ولم أسمع باسم الشيخ البشير الإبراهيمي ولا باسم ابنه المسجون. والغريب أنه حتى في ندوات مالك بن نبي الأسبوعية التي كنت أحضرها بانتظام كل يوم سبت"، "ترددت على حلقة مالك بن نبي بانتظام في ظهر كل يوم سبت. كنّا خمسة أو ستة أشخاص ونادراً ما زاد عددنا على ذلك، وفي شهر مايو 1965 رجعت إلى فرنسا والتحق بي د. رضا الفقيه بعد الإطاحة بالرئيس بن بلّة، فقد كان من أنصاره ولم يبق له مقام مع النظام الجديد. وهو الذي عرفني بالأستاذ محمّد حميد الله وبالخصوص بالمرحوم المختار الحجري في باريس".
على حد تعبير الدكتور المناعي، فيما نشر من مذكراته.
وفور عودته إلى تونس مطلع الثمانينات تزوّج أحمد المناعي من سيدة جزائرية، الفاضلة مليكة، ابنة شقيقة المجاهد القائد الشهيد العقيد عميروش، رحمه الله، تعرف عليها وعلى عائلتها عام 1968.
أحمد المناعي عاش تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه مع المفكر الجزائري مالك بن نبي
وفي الجزائر عاش أحمد المناعي تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه مع المفكر مالك بن نبي ، هذا التحول أضفى على تفكيره مسحةً روحية لن تغيب عنه أبداً. فيما كانت تونس البورقيبية، تنزع شئياً فشيئاً نحو حداثة وضعية، شديدة القسوة، محروسة بالحزب ورجال الشرطة. كان أحمد المناعي يبتعد شيئاً فشيئاً نحو عقلانية مفعمةٍ بالروح والإيمان. ولأنه كان دائماً نسيجاً لوحده، فقد كان من بين قلة من زملائه، من ذوي الثقافة الغربية، الذي لم يرَ في الدين أي عائق اجتماعي، كما كانت الدولة البورقيبية تصوره. وفي الوقت نفسه لم تكن روحانيته مؤدلجةً، وقد حضر أول حلقات مالك بن نبي وبقي متواصلاً معه حتى بعد ذهابه لفرنسا ورجوعه لتونس، ويحكي المناعي عن مالك بن بني أيامها، بقوله: "بعد رجوعي إلى تونس نهاية 1969 بقيت على اتصال به وتراسلنا، وفي سنة 1970 ترأست اللجنة الثقافية المحلية بالوردانين دعوته لحضور ندوة فكرية في الوردانين. لم أتصور أن الأمر سيعرف تطوراً سريعاً، إذ جاءتني برقية رسمية باسم وزارة التعليم العالي الجزائرية يطلب مني فيها مالك بن نبي بتحديد الموعد. واضطررت للرد بأن الندوة قد تأخرت. كنت على جانب كبير من الخفة فقد دعوته إلى ندوة لم أهيئ لها شيئاً من الأسباب.
مضيفاً بقوله: "وقد بقيت على اتصال بمالك بن نبي إلى ما قبل وفاته – بشهرين أو ثلاثة حيث أوكل إليّ إعادة نشر كتابه وجهة العالم الإسلامي – بالفرنسية"، وقد سعيت إلى جمع المبلغ عن طريق اكتتاب لتغطية تكاليف النشر لكنني لم أوفق في ذلك وفشل المشروع".
مختتماً شهادته عن أستاذه مالك بن نبي بقوله: "كنت في منبولي بفرنسا عندما أعلن التلفزيون الفرنسي وفاة المفكر الجزائري مالك بن نبي، يوم 31 أكتوبر 1973، رحمه الله".
كتابه حول التعذيب المنهجي الذي تمارسه الدولة ضد أبنائها
كان المنفى على قسوته كاشفاً، خلال عقدين من الغربة القسرية، وكان أحمد المناعي يقاتل على جبهتين: الاستبداد من جهة والذاكرة والحقيقة من جهة أخرى، وفي عام 1995 نشر كتابه، الوثيقة غير المسبوقة في رواية قصة التعذيب في تونس: "العذاب التونسي: الحديقة السرية للجنرال بن علي".
يُلقي الكتاب بحجر في بركة الصمت، هذا الكتاب، الذي أراده الشعب، حول التعذيب المنهجي الذي تمارسه الدولة ضد أبنائها، مستعيداً تاريخ آلة التعذيب هذه منذ الحقبة البورقيبية وصولاً إلى قصته الشخصية، التي جاءت صورها بشعةً ومؤثرةً إلى أبعد الحدود. كما نقل عشرات القصص ولاسيما حالات اعتقال النساء وتصويرهن عاريات من أجل ترهيب أزواجهن، كل ذلك دوّنه بإحكام ومهنية الحقوقي وسردية المؤرخ الراوي في طيات الصفحات الـ 251 لكتابه المؤثر، ذاك، وقد ساهم بالتعريف به كاتب هذه السطور لدى جاليتنا في سويسرا.
قراءة الكتاب تحبس الأنفاس وتخلق الغصة تلو الغصة لدى محبي الحرية
ولما ترجم الكتاب للعربية طبع في مصر، وكتب الناشر المصري (مدبولي) هذه السطور للتعريف بالكتاب: "قراءة هذا الكتاب تحبس الأنفاس وتخلق الغصة تلو الغصة لدى محبي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ويقدم الكتاب صورة عن "تونس الأخرى" بعيداً عن الاحتفالات الفولكلورية، وتدعو للتفكير حول الحاضر والمستقبل في هذا البلد العربي، وفي الكثير من البلدان الأخرى. ويخلط منه رعب "التعذيب التونسي" مع طموحات ديمقراطي مسلم غير منتمٍ لأي حزب ولا يمكن تصنيفه ضمن هذه الفئة أو تلك!
كما استقبل الكتاب في نسخته الفرنسية من طرف جاليتنا في أوروبا بفرح من جهة وتردد أخرى، خاصة من بعض التونسيين في الغرب مخافة زبانية بن علي أن ينتقموا من عائلاتهم في تونس، أما غيرهم خاصة -الجزائريين- فقد سارعوا حتى لعرضه على غير العرب خاصة أنه كتب بلغة فرنسية راقية، وحاولنا المساعدة في تسويقه حتى في المساجد ومعارض الكتاب.
كما شكّل صدور الكتاب ضربةً موجعةً للنظام. حرّك بن عليّ مكاتب وكالة الاتصال الخارجي في باريس وبروكسل وجنيف، للقيام بحملة واسعة في العالم الفرنكفوني للردّ على الكتاب، وكانت التهمة جاهزةً، حول انتماء أحمد المناعي إلى حركة أصولية إرهابيةً. ومع ذلك فقد نجح الكتاب في اختراق التغطية الإعلامية خاصة في الجهات الثلاث (أوروبا والجزائر والمغرب)، وحظي باهتمام واسع من الصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان. وحين فشل النظام في هزيمة المناعي بوسائل الدعاية، عمد إلى العنف، عندما دبرت عناصر أمنية تونسية محاولتي اغتيال له، الأولى في 29 فبراير/شباط 1996 والثانية في 14 مارس/آذار 1997.
وقد نجا بأعجوبة من موت محقق في المرتين، دبرت له في فرنسا حتى أدخل المستشفى، وقيل إن أصحاب العملية من شرطة بن علي وقيل غيرهم، ولم يقبض عليهم!
مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا، ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها
بين فرنسا والجزائر والمغرب وسويسرا، ارتحل خلال عقدين، دارساً ومدرساً وخبيراً ومناضلاً وناصحاً.
عمل المناعي بعديد الدول في كل من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في مجال الإصلاح الزراعي.. ثم عاد إلى تونس ليشهد ما عُرف بـ"ثورة الخبز". كتب عنه صحفي تونسي بقوله: "كنت دائماً ما أمازحه بالقول: "إنك كلما حططت الرحال ببلد حدثت فيه ثورة"، فيضحك مردداً بصوت خفيض قولاً للزاهد عبد العزيز الديريني، كما تنسب هذه الأبيات أيضاً لأبي العلاء المعري:
"مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا *** ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها
ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها!"
أدرك بلاده تونس وقد دخلت أزمة النظام والمجتمع نفقاً، من اللايقين والفوضى، لم يكن أحد يدري كيف سينتهي. كان النصف الثاني من الثمانينيات ثقيلاً. جاء انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، بقيادة زين العابدين بن عليّ ليحقق القطيعة مع بورقيبة، وفي الوقت نفسه الاستمرارية للنظام البوليسي!
بموازاة هذا الصراع مع النظام التونسي، كان أحمد المناعي في منفاه مخالطاً لكافة أطياف المعارضة العربية والاسلامية، أفراداً وجماعاتٍ. وفي محنة التغريب القسري، شرع في اكتشاف هشاشة المعارضة وأمراضها، الانتهازية والزعاماتية، وضعف التفريق عندها بين المسألتين الوطنية والديمقراطية"، على حد تعبير أحد التونسيين.
من العقول الكبيرة التي تستشيرها الشخصيات التاريخية في عالمنا العربي
كان الدكتور المناعي من العقول الكبيرة التي تستشيرها الشخصيات التونسية الكبيرة في أوروبا، أمثال الوزير الأول محمد مزالي، والشيخ راشد الغنوشي والرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، وحتى بعض الجزائريين أمثال المرحوم الرئيس بن بلة والمرحوم الوزير الأول الجزائري عبد الحميد ابراهيمي والمرحوم الشيخ العلامة محمود بوزوزو، وبعض القوميين العروبيين واليساريين والحقوقيين والإسلاميين عموماً من عرب وعجم، وكان كثيراً ما يضبط مواعيده معهم في المكتبة العربية القديمة بجنيف التي كان يشتغل فيها تونسي من التيار اليساري، محمد بن هندة.. فكان حقاً رفيق درب وسند جل التيارات في أوروبا، على تناقضاتها أحياناً، الأمر الذي خوّل له أن يكون سفيراً للمظلومين ومدافعاً عن المضطهدين -مهما كانت ألوان ألويتهم السياسية- وسنداً لهم من طلبة وعمّال وحقوقيين ومعارضين وفي مقدمتهم الإسلاميون حتى من تركيا والعراق ومصر وسوريا واليمن و..
زاهد في السلطة والمناصب السياسية العليا الدولية
يذكر بعض معاصريه التوانسة بقوله: "إن المناعي كان يسير طرقاً لم يسرها غيره، ويسلك مسالك مخالفة للسائد طلباً للاستقلالية، وربما كانت تلك متعته الوجودية في تجاوز ذاته. جذوره الاجتماعية ورأسماله السياسي، كان كفيلاً بأن يؤمن له موقعاً رفيعاً في الدولة التونسية، ومع ذلك انشق بعيداً سالكاً طريقه الخاصة. ثقافته الواسعة وتعليمه الجيد كانا كفيلين بأن يحققا له مناصب دولية وثروةً مالية لدى المنظمات الأممية، لكنه انشق سالكاً دربه المتفردة، في مؤسسته المستقلة". قال في حديث له على أثير إحدى الإذاعات العربية: "أنا قريب من السلطة بحكم وسط عائلي لم أختره لكن لستُ جزءاً منها، ولم أدخلها يوماً، ولم أفكر في يوم من الأيام أن أكون جزءاً منها في أي مستوى من المستويات، لقد تعودت الدفاع عن قضايا اخترتها وانخرطت فيها".
وقضى المناعي بقية حياته بين عائلته في تونس التي كان يحبها جداً ويقدر معاناتها جراء نضاله وبين خلانه وشركائه في المشروع الفكري والثقافي الذي ملأ عليه دنياه، وبين العلاج من مرضه الذي أتعبه في آخر حياته".
رحل إذن الرجل الخلوق المجتهد الصارم، الذي كانت العرب في الغربة تدين له بالفضل، رحل فجأة حينما توقفت في صدره تلك المضغة، توقف قلب رجل لم أعرفه إلا متحركاً فاعلاً، لصالح الإنسان المستغيث مهما كانت أصوله وفصوله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.