التهجير القسري مفهوم نراه واقعاً أمامنا خلال اللحظات التي أكتب بها هذه الكلمات، كابوس يطارد ملايين البشر في كل مكان من وطننا العربي، سلاح يستخدمه الغزاة والمستعمرون والرأسمالية القميئة، وأداة لقمع الشعوب والأفراد وهدم هوية الإنسان.
إن الإنسان أقرب إلى الشجرة، يمد جذور ذكرياته في الأرض فتنمو كمنزل وحارة ومنطقة، تنقسم هذه الجذور وتتغلغل أكثر في التربة، فتصبح أصدقاء ورفاقاً، وجيراناً، ثم تتشابك الجذور مع نمو الإنسان، وتُشكِّل لوحة ليس لها مثيل، وهذه اللوحة هي هوية الإنسان، فهو يعرف من هو ويدرك ما هو، حين يكون متصلاً بجذوره التي أنبتته وصنعت ما هو عليه.
لهذا يمثّل التهجير والطرد من الأوطان أهم سلاح للطغاة والمستعمرين والرأسمالية، وبنظرة عميقة تجدهما جميعاً لا يختلفان في الهدف على الأقل، يبغيان سرقة جذورك وأرضك، كلاهما يريد تجريف هويتك وتمزيق لوحتك، وهما عدوان لك وجبت عليك مقاومتهما.
يتماثل أصحاب رؤوس الأموال مع المستعمرين، فهم لا يرون أمام عيونهم سوى التوسع والسيطرة على الموارد الطبيعية والعمالة الرخيصة، وبالتالي تحقيق أكبر مكسب ممكن مهما كانت أثمان ذلك المكسب.
لذلك منذ قديم الزمان، والاثنان يسعيان بكل قوتهما لتهجير السكان الأصليين وتدمير هوياتهم ومحو ثقافتهم وتفكيك مجتمعاتهم، وذلك لكون المجتمعات المترابطة والقائمة على أساس العائلة تمثل أكبر خطر على الرأسمالية والاحتلال، فصاحب رأس المال يريد تهجير الفقير من أرضه كي يمنحها للغني، والمستعمر يريد تهجير الساكن الأصلي من أرضه كي يمنحها للمستعمر الأوروبي الذي يدّعي كذباً أن أصوله من الشام.
تعددت مللهم وقلبهم واحد كما يقال، وهنا تطل علينا نتفليكس بفيلمها الجديد تحت عنوان The Kitchen الذي صدر الشهر الماضي، ليفرض جدلاً جديداً بين النقاد والمراجعين بسبب الموضوع الذي يعرضه، والفكرة التي يناقشها والتي تتناسب بشكل غريب مع الحرب الدائرة.
عن فيلم The Kitchen
في مستقبل مأساوي قريب، يسرد الفيلم قصة إيزي، الشاب الذي يحاول الهرب من الواقع القاسي الذي يحيط به في المجمع السكني المسمى بـThe Kitchen، وهذا المجمع السكني يمثل حائط السد الأخير أمام عملية التهجير والإسكان الإجبارية التي تمارسها السلطات، وفي هذا المستقبل اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وأصبحت السلطة مجرد أداة لأصحاب المال الذين يريدون تهجير السكان من The Kitchen وإسكان الأغنياء مكانهم في مجمعات مرفهة، وأمام هجمات الشرطة التي لا تنتهي والقمع الذي يدمر أجسادهم، على سكان المجمع الوقوف معاً والمقاومة حتى النهاية.
وصفته صحيفة الجارديان "بأنه فيلم قوي، يعرض الكثير من المواضيع المهمة بصدق لا مثيل له، فيلم يجب أن يشاهده كل شخص مهتم بالعدالة الاجتماعية ومستقبل المدن".
كما وصفته مجلّة Variety بـ"فيلم يرتبط بمشاعر المشاهدين ويحاول إيصال رسالة قوية، هو كذلك شهادة على قوة المجتمعات وأهمية القتال لأجل ما نؤمن به".
ولكن هل يستحق الفيلم ما قيل عنه حقاً؟
في البداية يريك الفيلم الصورة المستقبلية للمجتمع الإنساني حين تتمكن منه مخالب الرأسمالية المتوحشة، لا مكان للفقراء، وكل مساحة ممكنة يجد أصحاب المال طريقة لاستغلالها لأجل الأغنياء.
تتمثل صورة الفقر في ذلك المستقبل في بطل الفيلم إيزي، والذي يعيش في المجمع السكني الذي تدور حوله القصة، إيزي هو شاب وحيد بائس لا يدرك حتى أن صديقه المفضل يمتلك طفلة، يعمل إيزي في خدمة تُدعى الحياة لأجل الحياة، وهي خدمة لأجل الفقراء الذين لا يمتلكون المال الكافي لدفن أحبائهم الموتى بشكل لائق، حيث يتم تحويل أجسادهم إلى أشجار لزراعتها بدل دفنهم.
في هذا المستقبل، يمكنك أن تدرك جيداً مقدار المأساوية الذي تعيش بين صفحاته، فالفقير لا يمتلك المال الكافي لدفن من يحب، فكيف إذاً بالمال الذي يحتاجه لأجل حياته؟
يخطط إيزي لجمع المال الكافي والخروج من مستنقع الفقر المسمى بـThe Kitchen، ولكن تصطدم خطته بالحائط حين يتقاطع طريقه مع طريقة بينجي، الفتى ذي الـ12 عاماً والذي أصبح يتيماً للتو.
بسرعة يلقي بك الفيلم في آلام اليتم والفقر، فيتعلق بينجي بإيزي ويعمل معه في خدمة الحياة لأجل الحياة، ويغرق معه في حي The Kitchen، حيث يبدأ في تكوين العلاقات مع سكان الحيّ والانضمام إلى مجموعة من الناشطين المقاومين للتهجير الذي تمارسه السلطة على سكان الحيّ.
بالطبع حين لا يخضع الفقراء لسلطة الأغنياء، وحين يقاوم صاحب الأرض مستعمره، يبدأ الأخير بممارسة الوحشية والعنف المنظم حتى يحطم قدرة المقاوم على المقاومة، وفي خضم محاولات بينجي وإيزي النجاة، تزداد وحشية السلطات على سكان الحيّ، ويصبح الوضع أسوأ وأخطر بمرور الوقت، وهنا يجب على أبطال الفيلم القيام بخيارات صعبة.
من الأسباب الأخرى التي جعلت الفيلم يسبب جدلاً كبيراً بين مشاهديه، تشابه حالته مع الواقع الذي نعيشه اليوم، فمجتمع The Kitchen هو مجتمع محاصر من كل اتجاه، تحاصره قوات الشرطة في الشوارع، وتغطيه من السماء الطائرات من دون طيار، وحتى المياه، تستخدمها السلطات كسلاح ضد السكان، حيث قامت بقطعها عن الحي بأكمله وجعلها تعمل في مكان واحد فقط لتهجيرهم بالقوة.
بالطبع يمتلك الفيلم الكثير من العيوب، فهو يحاول أن يعلّق في قصته على كثير من ملامح الواقع الإنساني المعاصر، وهذا بالطبع يضعه تحت ضغط يهدد حبكته وقصته، ولكن رغم هذا العيب، يبرع في رسم الأجواء المستقبلية البائسة والتي تكاد تتلامس مع واقعنا اليوم، وبالتأكيد هو تجربة تستحق الجدل المدار حولها.
في النهاية، يمثل الفيلم ملحمة مدنية رغم عيوبه، ويحاول قدر استطاعته إظهار الوحشية التي يمارسها الطغاة في عملية التهجير القسري، وكيف يصبح التهجير سلاحاً مرعباً وخطيراً لتجريف هويات الشعوب.
بالطبع إن أثار الفيلم إعجابك يمكنك كذلك مشاهدة بعض هذه الأعمال المماثلة في موضوعاتها التي تناقشها:
Years and Years (2019)
يضعنا هذا المسلسل القصير في حالة من الترقب حول المستقبل القريب للغرب والعالم، فالمسلسل يتخيل ما سيتحول إليه واقعنا حين يسيطر اليمين المتطرف على بريطانيا والولايات المتحدة، يتبع المسلسل أفراد عائلة واحدة يحاولون التعايش مع الانقسام والفوضى التي ستحدث في المستقبل القريب.
Athena (2022)
بعد عدّة ساعات من وفاة أخيهم الأصغر في ظروف غامضة، حياة ثلاثة إخوة تتحول إلى فوضى عبر بيئة العنصرية والقمع والصراع مع الشرطة في فرنسا، يسلط هذا الفيلم أيضاً الضوء حول واقع المهاجرين في الغرب، وكيف تتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية بسبب اختلاف لون بشرتهم رغم الادعاء الشهير بأن الغرب لا يفرق بين أعجمي وعربي.
بالطبع في واقع مثل واقعنا المأساوي، لا نحتاج للأفلام أو الأعمال الدرامية كي تخبرنا عن مآسينا، ولكنها في النهاية قد تمنحنا رؤية أوضح لما يجب علينا فعله كي نتجاوز هذه المآسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.