في تسلسل ماسلو للحاجات والسلع التي يحتاجها الإنسان في المسار اليومي لحياته، وضع ماسلو المواد الغذائية في المقدمة، وقد سبق القرآن الكريم ماسلو منذ ما يزيد على 14 قرناً في وضع تسلسل لاحتياجات الإنسان حسب أهميتها، وذلك في سورة قريش، فقال سبحانه: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} [قريش]
فقد وضع الله تعالى الغذاء بمختلف صنوفه وألوانه في مقدمة ما يحتاجه الإنسان من مواد لأنها تحمل روح "إكسير" الحياة الذي يقي الإنسان الموت سغباً وأردفها بالأمان على اعتباره هو الحاجة الإنسانية والإجتماعية الملحة في الحياة بعد الطعام، فالإنسان يبحث طوال حياته عما يقيه المؤثرات السلبية في ليله ونهاره، ومنها الوطن لأنه يشكل أهم عامل استقرار في حياة المرء ففيه يولد وفيه يترعرع وفيه يحصل على السكينة والطمأنينة بين جدران بيته الذي يحتضنه الوطن؛ لأن الإنسان يخاف على حياته من كل شيء من حوله فهو يجد الراحة والاستقرار وهدوء البال وانتعاش النفس في بيته تحت ظل خيمة وطنه الوارف.
ويبدو أن إسرائيل بعد الدراسة والتمحيص والتحليل اهتدت واعتمدت ثنائية الغذاء والأمن في إعلان حرب الحاجات الإنسانية جنباً إلى جنب الحرب العسكرية إمعاناً منها في الانتقام من أهل غزة.
وعليه، فإن مأساة أهل غزة فاقت كل مأساة في تاريخ الإنسانية بمختلف عصوره، فقد تخلى عنهم أمام إسرائيل الأخ قبل الصديق، الأخ الذي هو قادر كل الاقتدارعلى أن يتدخل للذب عنهم والدفاع من أجلهم بكفاءة لأنه يملك وسائل كثيرة للدفاع عنهم، وبذلك وفر فرصة لإسرائيل لكي تنفِّذ ما يحلو لها من مخططات بحق أهل غزة؛ مخططات انتقامية شديدة البأس بعيدة كل البعد عن مخططات رعاية المصالح وتعزيز النفوذ التي يستهدف الخصم خصمه من أجل الحصول عليها منه.
فإسرائيل تستهدف أهل غزة في كل شيء وفي المقدمة الغذاء، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف توجهت نحو وكالة الأونروا لأنها الجهة التي تتولى تقديم الغذاء لقطاع غزة عبر موظفي فرعها العاملين فيه، ووجهت أصابع الاتهام لـ12 منهم بأنهم كانوا ضالعين في هجوم طوفان الأقصى الذي نفذته حماس ضد مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وعلى الفور، سارعت 18 دولة من الدول المانحة، ومنها أمريكا، إلى قطع تمويلها المالي لهذه الوكالة وما كان من الإدارة الأمريكية أيضاً إلا أن توجهت عبر الكونغرس إلى اتخاذ قرار يتناغم مع المزاعم الإسرائيلية، مع العلم أن أمريكا عادة تمنح للأونروا ما بين 300 مليون و400 مليون دولار سنوياً.
وقالت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الشهر الماضي، إنها أوقفت بشكل مؤقت التمويل الجديد للأونروا وهي كاذبة، بل أوقفته بشكل دائم لأنها متوافقة تماماً مع إسرائيل في إبادة أهل غزة وترحيلهم باستخدام مختلف وسائل الضغط وفي مقدمتها قطع الإمدادات الغذائية عنهم من أجل التجويع والاستمرار في حرب الإبادة من أجل تهجيرهم لتحقيق ذلك الهدف الملعون.
ومن أجل إضفاء طلاء من المصداقية على قرارها، ربطت بينه وبين ادعائها أنها ستحقق في مزاعم إسرائيل بمشاركة 12 موظفاً من موظفي الأونروا في هجمات السابع من أكتوبر على إسرائيل، وهي تكذب ثانية لأن القرار كان قد تم اتخاذه، فقد تضمن مشروع قانون كشف عنه أعضاء بمجلس الشيوخ بنداً يمنع الوكالة من تلقي الأموال ولم يحددوا شكل المنع أو لونه ومدته؛ ما يسمح بالتكهن بأنه إيقاف نهائي.
وقد بيَّن موضحاً حيثيات الموقف الأمريكي نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتل، قائلاً: إن واشنطن تدعم الأونروا "لعملها شديد الأهمية" باعتبارها وكالة الإغاثة الرئيسية للفلسطينيين، لكنها ترغب في رؤية "نتائج ملموسة" من تحقيق الأونروا في مزاعم إسرائيل، رافضاً تحديد متى ستتخذ الولايات المتحدة قراراً بشأن استئناف التمويل.
وبذلك وضعت إسرائيل في جيبها موقفاً رسمياً بل قراراً يتألف من دول كثيرة من بينها امريكا بأن لقمة عيش الغزاويين عن طريق التمويل الدولي والإقليمي قد تقلّصت إن لم نقل تلاشت وانعدمت، وأن التحكم بها أصبح بيدها (إسرائيل) وتحت رحمتها التي لا وجود لها حتى في عالم الأحلام، وكذلك في قبضة الفيتو الأمريكي سيئ الاستخدام.
أما بالنسبة للهدف الثاني وهو تهجير أهل غزة قسراً أو طوعاً، فهو يستدعي لتحقيقه حرمان أهل القطاع من (الأمن)، فقد تحركت إسرائيل نحوه، وكانت أداتها في تحقيقه هي حرب الإبادة التي تمارسها ضد أهل القطاع من البر والبحر والجو منذ خمسة أشهر لتهجيرهم من جهتين، كما قلتُ وهما جهة التهجير الاختياري عبر إغرء بعض العوائل الغزاوية بمختلف أنواع المغريات المادية لكي يوافقوا على ترحيلهم إلى دول أخرى؛ مثل الكونغو ورواندا.
والجهة الثانية عبر التهجير القسري من خلال هدم المنازل وتدمير البنى التحتية والقتل الواسع المرعب عبر تكثيف الآلة الحربية الجهنمية لأسلحتها على رؤوسهم، فقد ارتفعت حصيلة ضحايا العدوان إلى "27 ألفاً و478 شهيداً و66 ألفاً و835 مصاباً" منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفق وزارة الصحة الفلسطينية والأمم المتحدة.
وكذلك من خلال مناشدة دول العالم لقبول المهجرين الفلسطينيين كلاجئين على أراضيها وتم الإعلان عن ذلك عبر دعوة النائب اليميني الإسرائيلي تسفي سوكوت دول العالم لفتح أبوابها أمام "هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة" بهدف إفراغه، وكذلك دعا إلى تحقيق هذا الهدف وفي أكثر من مناسبة وزيرا الأمن القومي والمالية الإسرائيليان، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فقد أعلنا عن دعمهما لـ"التهجير الطوعي للفلسطينيين" من قطاع غزة.
أما النازحون من ويلات القصف الإسرائيلي باتجاه سيناء؛ إذ لا يوجد أمامهم وجهة سواها، فينزحون إليها بحثاً عن الأمان، فإن مصر العروبة وأرض الكنانة وأرض خير أجناد الله كما يزعمون وأم الدنيا كما يدعون فقد استقبلتهم بوضع مزيد من الأسلاك الشائكة على السياج الحدودي لمنع الفلسطينيين من العبور في ظل حالة الحصار الشديد التي يفرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي على أهل قطاع غزة.
ويقول المتابعون لمسار أحداث الأوضاع في غزة إن تعزيز الجدار الخرساني من قبل السلطات المصرية قد جاء مع انتشار خيام النازحين الفلسطينيين بمحاذاة السياج الحدودي.
فضلاً عن قيام الحكومة المصرية قبل فترة بإغلاق وردم أكثر من 1500 نفق كان الفلسطينيون يستغلونها في حربهم مع إسرائيل من أجل تحرير وطنهم والحصول على دولتهم المستقلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.