لطالما سعى المنتصرون أن يكتبوا التاريخ لنا، بحرص وتشذيب وبلاغة تجعلنا لا ننظر لماضينا إلا كهزائم ومآسٍ لن تساعدنا في الحاضر وتحدياته. لكن الصحفي والأديب الأوروغوايني إدواردو غاليانو يرفض ذلك، ويعيد كتابة التاريخ كما يراه المهزومون لا كما كتبه المنتصرون؛ أي رواية ما حصل من وجهة نظر الضحايا لا من وجهة نظر الظالمين.
في متاهة تاريخ أمريكا اللاتينية، يظهر كتاب إدواردو جاليانو "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" كمنارة للحقيقة الصريحة. إذ يرسم، ببراعة شاعر وصرامة مؤرخ، قصة مقنعة بقدر ما هي مفجعة، عن قارة تم إخضاعها، ونهبها لقرون، وشعوب تم تشويه سيرتها، ووصفها بصفات الوحشية وألصقت بها الأفعال التي مورست عليها لإبادتها، بعد أن كانت الأرض لها والماء لها والسماء كلها، قارة بأكملها شوه وجودها الرجل الأبيض وطمس ماضيها ومستقبلها أيضاً.
في ثنايا كتاب "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية"، ينسج إدواردو غاليانو نسيجاً تاريخياً معقداً، يكشف من خلاله عن أوجه الاستغلال والظلم التي عانت منها أمريكا اللاتينية عبر العصور. لا يقتصر الأمر على تسليط الضوء على الجروح النازفة التي خلفها الاستعمار، بل يذهب غاليانو أبعد من ذلك ليشير إلى أن هذه الجروح لم تلتئم بعد؛ فالاستعمار لم يكن مجرد فصل مؤلم في تاريخ الغرب يمكن محوه بالاعتذارات أو التعويضات المالية.
فيبرز غاليانو، من خلال سرده العميق والمؤثر، كيف أن الاستعمار لم يكن حدثاً زمنياً معزولاً بل نظاماً متواصلاً من السيطرة والهيمنة، يتجلى في السياسات والأطر الاقتصادية التي ما زالت تشكل واقع أمريكا اللاتينية والعالم حتى اليوم. يستشهد الكاتب بمثال النهب المنظم للموارد الطبيعية في القارة، من الذهب والفضة في العصور الماضية إلى النفط والمعادن الثمينة في العصر الحديث، كدليل على استمرارية الاستغلال تحت مسميات وأشكال جديدة.
لعل أحد الأمثلة الصارخة التي يعرضها غاليانو هو تاريخ استخراج الفضة من مناجم بوتوسي في بوليفيا، حيث تم استغلال السكان الأصليين والعبيد الأفارقة بشكل وحشي لضمان تدفق الثروات إلى أوروبا. يُظهر هذا المثال كيف أن الثروات الهائلة التي تم جمعها لم تسهم في تنمية المنطقة المحلية بل في تعزيز القوة والرفاهية للمستعمرين.
بهذه الطريقة، يعيد غاليانو صياغة النقاش حول الاستعمار ليس كحقبة تاريخية انتهت بزوال الإمبراطوريات الاستعمارية، بل كنمط استغلال متجذر ومستمر يحتاج إلى فهم عميق وتحليل نقدي لمواجهته والتغلب عليه. إن الاعتذارات والتعويضات المالية، مهما بلغت، لا يمكن أن تعيد ما تم انتزاعه من الأرض والناس على مدى قرون من الزمن. يشدد غاليانو على ضرورة إعادة تقييم العلاقات الاقتصادية والسياسية العالمية بشكل جذري لتحقيق عدالة حقيقية ومستدامة لأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق التي تأثرت بالاستعمار.
عرف الكتاب الشهرة خلال لحظة تاريخية نابضة بالرمزية، خلال اجتماع رسمي جمع قادة أمريكا الجنوبية برئيس الولايات المتحدة الأمريكية، باراك أوباما، في عام 2009، قدّم الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز، هدية ذات مغزى عميق: نسخة من كتاب "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية". كان هذا الفعل بمثابة نقطة تحول، حيث تحولت أنظار العالم نحو هذا العمل الأدبي الثوري، مما فتح نقاشاً عالمياً حول محتوياته ورسائله العميقة.
"التاريخ يكتبه المنتصرون"، مقولة قديمة كانت تُعتبر سنةً متبعة في كتابة التاريخ، لكن الصحفي والأديب الأوروغوياني، إدواردو غاليانو، وضع نفسه في مواجهة هذا الاعتقاد الراسخ. بروح متمردة وقلم ثائر، صيغ هذا الكتاب، الذي لم يكن مجرد عمل أدبي بل رسالة تحدٍّ للمفاهيم السائدة عن التاريخ والعدالة. هذا الكتاب، الذي عُرف بجرأته وصدقه، استطاع أن ينتزع مكانة خالدة في ذاكرة العالم، محققاً شهرة واسعة وتكريماً يليق بجلال قضيته.
صدر كتاب "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" في العام 1971، في قلب فترة تاريخية مضطربة، حيث كانت الديكتاتوريات المدعومة من الولايات المتحدة تشكل الواجهة السياسية لعدد من دول أمريكا اللاتينية خلال مرحلة الحرب الباردة. في هذا السياق الملتهب، جاءت كلمات غاليانو كالصوت الصارخ في البرية، مزعجة للغاية للروايات الرسمية الزائفة حول التقدم والتنمية، والتي كانت تروج لها الأنظمة الاستبدادية التي تخضع للنفوذ الأمريكي آنذاك.
وقد نال هذا الكتاب التكريم الذي يستحقه، لكن ليس بالطريقة التقليدية التي قد يتوقعها البعض. إذ علق غاليانو على هذا الأمر بقوله إن أفضل التعليقات التي حصل عليها الكتاب لم تأتِ من نقاد أدبيين بارزين، بل من خلال الاعتراف الضمني بأهميته وتأثيره من قبل الديكتاتوريات العسكرية نفسها، التي عبّرت عن إعجابها الساخر بالكتاب من خلال منعه. "في بلدي، وفي تشيلي، وفي الأرجنتين، لم يُسمح بتوزيع هذا الكتاب. في الأرجنتين، شنّت السلطات حملة ضده في التلفزيون والصحف، معتبرة إياه أداة لإفساد الشباب"، كما علق غاليانو.
هذا النوع من "التكريم"، الذي يتمثل في الحظر والتشهير، يُظهر بوضوح القوة الهائلة للكلمات والأفكار التي يحتويها هذا العمل الأدبي.
يظل هذا الكتاب، وهو سجل دقيق للاستغلال والمقاومة، شهادة على الروح الدائمة للقارة التي ظلت لفترة طويلة مسرحاً للغزو الاقتصادي والسياسي. فعندما نعيد النظر في تحفة غاليانو، فإننا لا نجد وصفاً تاريخياً فحسب، بل نجد أيضاً بياناً حياً يتنفس والذي لا يزال يتردد صداه مع نضالات أمريكا اللاتينية اليوم.
كثيراً ما أشاد النقاد والأدباء بعمل غاليانو بسبب نثره الغنائي وانتقاده الحماسي للإمبريالية، فقالت الكاتبة التشيليّة إيزابيل الليندي في مقدمتها لهذا الكتاب بطبعته الإنجليزية: "بعد الانقلاب العسكري في عام 1973 لم أستطِع أخذ الكثير معي وأنا مغادرة: بعض الثياب، صور العائلة، حفنة من تراب الحديقة، وكتابين: الأول هو كتاب شعر لبابلو نيرودا، والثاني كان الكتاب ذا الغلاف الأصفر؛ الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية".
إن ما يميز كتاباً هو التزامه الذي لا يلين بأصوات المهمشين، فحياكة غاليانو لقصص المقهورين عبارة عن تعدد أصوات المسكتين، وهي عبارة عن نسيج من الشهادات التي امتدت لقرون من القمع والمقاومة، فهو يتحدى القارئ لمواجهة الحقائق غير المريحة لتاريخنا المشترك، والاعتراف بالدماء والدموع التي خصبت تربة العالم الجديد.
يتطرق الكتاب في مقدمة وفصلين رئيسَين يندرج تحتهما العديد من الفصول الفرعية، وخاتمة إلى موضوعات الاستعمار الجديد، والدمار البيئي، والطبقية الشديدة التي تنخر المجتمعات في عالم تستمر فيه شهية الرأسمالية العالمية النهمة في تدمير موارد الأرض، تتردد أصداء انتقادات غاليانو للاستغلال والسلب أعلى من أي وقت مضى. ويعد عمله بمثابة تذكير بأن جراح أمريكا اللاتينية ليست من بقايا الماضي، بل شرايين مفتوحة لا تزال تنزف.
من الأمور المركزية أيضاً في تحليل غاليانو هو دور الكنيسة والتاج الأوروبي في غزو الأمريكتين، وهي عملية مقدسة بعقيدة الحق الإلهي والقدر الواضح. حيث لعبت الكنيسة الأوروبية آنذاك، على وجه الخصوص، دوراً محورياً في تبرير استعباد وإبادة السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، ونسجت رواية لاهوتية صاغت الغزو كمهمة مقدسة. إن هذا التواطؤ بين الكنيسة والقوة هو بمثابة تذكير مظلم للطرق التي استخدمتها أوروبا للأساطير الدينية لإضفاء الشرعية على العنف والقمع، وهذا ما تستمر في فعله اليوم سواء داخل أوروبا أو في مستعمرتها في فلسطين عن طريق إسرائيل التي تستخدم أساطير دينية لإبادة الفلسطينيين اليوم في غزة على الطريقة الكلاسيكية الأوروبية.
رغم ذلك، ليس الكتاب لسرد المآسي فقط، فهو أكثر من مجرد إدانة للاستعمار ومظاهره المعاصرة؛ إنه إعلان للأمل. إذ يشير نثر غاليانو، الغني بروح النضال، إلى أن فعل التذكر، واستعادة التاريخ من المنتصرين، كشكل من أشكال المقاومة. في توثيقه لنضالات وتطلعات شعوب أمريكا اللاتينية، في محاولة لأن ينير الطرق نحو التحرير لجميع شعوب العالم، نحو مستقبل تغذي فيه ثروات القارات أبناءها بدلاً من ملء جيوب الإمبراطوريات البيضاء.
ونحن نتأمل في كتاب "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية" من موقعنا في زمننا الراهن، نستشعر بقوة كيف يمكن للتاريخ أن يوقظ الضمائر ويشعل شرارة العمل. عمل غاليانو، بروح التعاطف العميق التي يتسم بها وبنقده الثاقب والمستمر للظلم، ما زال يبعث الإلهام في قلوب جيل جديد من الناشطين والعلماء والمواطنين الذين يعانقون قضايا السيادة والعدالة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية.
يجب أن يجد ذلك الإلهام طريقه إلى قلوبنا وعقولنا أيضاً، مستنهضاً فينا الوعي بأن مفتاح نجاتنا يكمن في أيدينا؛ من خلال مقاومتنا، وبإعادة صياغة تاريخنا بأقلامنا، من منظور يعكس حقيقتنا وتجاربنا. إن الإلهام الذي يتسرب من صفحات تاريخ أمريكا اللاتينية ينبغي أن يكون بمثابة مرآة لنا، نرى فيها انعكاساً لواقعنا العربي الذي يطبعه الصراع تحت وطأة أنظمة تتلاعب بمصائرنا، متحالفةً مع الغرب بطرق تضر بمصالح شعوبها على الصعد كافة؛ السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية.
نعيش في ظل وهم يقودنا إلى الاعتقاد بأننا محور الكون، غافلين عن حقيقة أن هناك أمماً أخرى ترزح تحت وطأة تحديات تماثل تلك التي نواجهها نحن؛ من نهب الثروات وديكتاتوريات عسكرية إلى حروب دينية وثورات خُنقت في مهدها.. وفي الوقت ذاته، تتضح لنا أمثلة للصمود والنهوض يمكن أن تقدم لنا دروساً قيمة في كيفية التغلب على مأزقنا دون التفريط في هويتنا أو نبيع أرواحنا. أمريكا اللاتينية، بتجربتها الأليمة في مقاومة الاستبداد والاستعمار، تقف كشاهد على أن التغيير ممكن، وأن الأمل في النهوض لا يزال متقداً.
فلنستلهم من التاريخ إذاً العبرة والعزيمة، مدركين أن إعادة قراءة تاريخنا بعيوننا، ومن منظور يخصنا، هي الخطوة الأولى نحو تحقيق السيادة الحقيقية والعدالة الاجتماعية. فلن يكون الخلاص إلا بأيدينا، من خلال استنهاض الإرادة للمقاومة والإصرار على رسم مستقبلنا بأنفسنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.