لا مجال إلا أن نُثني على المقاومة الباسلة التي أضحت أيقونة الظفر العربية لدى شريحة كبيرة من سكان العالم الحر، رغم ما يجري في فلسطين، وفي غزة بالذات، إنه أمر مروع على جميع مقاسات الألم وحججه، إلا أن العالم ما زال يتمادى ليثخن الجراح بوقائع مؤلمة، نظن ألا قدرة لأهل غزة على تحملها، ومع ذلك فإن المقاومين وسكان غزة لن يركعوا لها، فثباتهم في القلوب لا يهتز بما يجري في الخارج.
والتسارع الغربي نحو إيجاد الحلول التي يعتقدون أنها حلول ناجعة غير مجد في ظل الرؤية الفوقية للآخرين، حيث توحي نظرة الغرب للقضية الفلسطينية كنظرة متعالية، فما نراه حقوقاً لا يرونه كذلك، وما نراه ثوابت عربية فلسطينية لا يعيرونه أدنى اهتمام، وما نقيم عليه حججنا إنما هو مساحة من الخزعبلات والأحلام غير الخلاقة لديهم.
باعتقادي أهم ما يمكن الاتفاق عليه دون تعالٍ هو حق الفلسطينيين في أرضهم، وأن المغتصبين هم الإسرائيليون في الأساس، والنقطة الفاصلة التي يمكن الالتفات لها هي احترام الآخر، لذا على المحتل التفاوض مع أصحاب الأرض، وليس مع عناصر خارجية تعمل لصالحه، فكم من سيناريو إسرائيلي وغيره أمريكي وأوروبي لتقرير وضع غزة بعد الحرب، ولا وجود لأهلها في تلك السيناريوهات، نعلم أن هذا الاستخفاف إنما هو حرب نفسية أيضاً للشعب الغزاوي.
وأقول استخفاف لأنهم قرروا الجهة المنتصرة، فقط يبقى تقرير شكل الحكم، فتارة إسرائيل هي من ستدير دفة الأمور بغزة، وتارة السلطة الفلسطينية الموجودة في الضفة الغربية، وتارة قوة محايدة أثناء فترة الإعمار، وتارة يأتينا سيناريو الدولة منزوعة السلاح تحكمها سلطة فلسطينية ذات مصداقية تتبناها إسرائيل، وذات مصداقية لدى الشعب الفلسطيني غير السلطة الحالية، وهي كلها فرضيات تقبل القسمة بين أمريكا والمعسكر الغربي وإسرائيل، لكنها لا تقبل القسمة مع المعنيين بالأمر ولا حتى مع العرب، وأعتقد أن معنى موافقتهم على إقامة دولة فلسطينية سيظل فيما بينهم، لأن قيامها على الواقع يعني تخلي إسرائيل عن حلمها في يهودا والسامرة كما تحب أن تطلق على الضفة الغربية، بل عليها الانسحاب والتخلي عن المستوطنات الإسرائيلية في أجزاء منها إلى حدود عام 1967، وكما يعني أيضاً ترسيم الحدود، ويعني أشياء أخرى متعلقة بالحقوق منذ 1948 وهو ما لا يمكن الحديث عنه.
مع أن الأمر ما زال سجالاً، لكن إسرائيل تمعن في مناقشة أمر غزة بعد الحرب، رغم أنها لا تملك رؤية قابلة للتنفيذ، ورغم غضب أمريكا على إسرائيل فإنها لن تتخلى عنها أبداً، لكنها يمكن أن تُرجِئ بعض طموحاتها للمستقبل، فمن المهم الآن استيعاب شروط العرب في الترويج لقيام دولة فلسطينية، والانضمام معها في تحالفات واسعة، خصوصاً المملكة العربية السعودية، التي تتضمن شروط التطبيع مع إسرائيل، رغم تعاونهما الحالي، خَلْق مسار حقيقي لقيام دولة فلسطينية، وهو أمر قد يكون حقيقياً، ومن السهل عندها قيام علاقات مع المملكة، لكن من الصعب الوصول إلى نهاية المسار، أقصد مسار الدولة الفلسطينية، فمسار الدولة سيبقى مساراً لا نهائياً، ولن يفرح العرب بالدولة الفلسطينية بعد كل هذه التضحيات.
الاتفاق على قيام دولة فلسطينية ولو كانت منزوعة السلاح غير قابل للتفاوض فيه في هذه المرحلة، ودعونا من "عقيدة بايدن"، فإسرائيل غير مستعدة ولا حتى المفاوضون الحقيقيون في غزة، ولن يكون الحديث عن مسار قيام الدولة سوى ذر للرماد بالعيون، حتى يتم المغزى منه، وسيترك على غاربه مساراً لا ترجى منه خاتمة.
والشواهد على ذلك كثيرة، منها خطابات نتياهو التي ملأ بها الدنيا وكررها على شعبه وفي الأمم المتحدة عن حدود بلاده، وعن مطامع دولته في إسرائيل الكبرى من النهر إلى النهر، وعن تعاليم نبيهم أشعيا، تلمودهم الذي لا يخطون خطواتهم إلا بهدايته والمضي على تعاليمه، فهل سيتخلون عن كل هذا ليقيموا دولة فلسطينية على حدود 1967؟ لا أعتقد ذلك ولا يعتقد أي عاقل.
الرواية الإسرائيلية حول فلسطين تحاول التفرقة بين العرب خصوصاً، وعلى العقلاء منهم التركيز حالياً على غزة، فإسرائيل في محاولتها نشر المساعدات القادمة من دول الخليج على أوسع نطاق وبكافة السبل تدجج هذا الأمر، القيادة السياسية في الإمارات حقاً تقوم بمد العدو بالغذاء وربما أسلحة، والقيادة السياسية في مصر تقوم حقاً بتجويع أهل غزة، ويشترك في كلا الأمرين بعض الدول العربية المعروفة، لكن الشعوب تختلف، نحن نراهن على الشعوب، ولتحذر القيادات غضب شعوبها، ولتحذر الأنظمة فتور العلاقة مع الشارع الشعبي.
أما ما يجري في العالم الذي يقال عنه عالم متحضر فشيء يثير الاشمئزاز، بل يفتقر للتوازن العقلاني، حين قرر 18 بلداً غربياً تعليق مساعداتها للأونروا، وبالتالي المساهمة في تجويع الشعب الغزاوي بالقدر الذي يتماشون فيه مع الروايات الإسرائيلية الكاذبة، حول عناصر الوكالة العاملة في غزة، التعليق يعني مزيداً من الحياة الشاقة أو اللاحياة التي تواجه أهل غزة في الأساس.
وحسبي أن هذه الإجراءات لا تراعي السكان المدنيين؛ كونهم لا يساوون شيئاً أمام مطالب إسرائيل بتركيع المقاومة، فهي الهدف وهي المبتغى، أما أولئك فليسوا سوى ضرب من علة قد يتحججون بها أمام العالم وبين سطور تقاريرهم الدامية، وهي محاولات من إسرائيل وأفكار تناور من خلالها لإضعاف موقف المقاومة، ولقلب وضعية الصلح القائمة بينها وبين السكان.
هو في مجمله استخفاف بكل ما يمت لغزة وأهل غزة بصلة، اتفاقاتهم أو حتى مناقشاتهم التي تتجاوز الحرب إلى ما بعدها استخفاف بالمقاومين، وكأن هزيمتهم مسألة وقت، واستخفاف بالسلطة الوطنية الفلسطينية، واستخفاف بحياة أهل غزة، بل هو استخفاف بكل عربي حاول يوماً مساعدة هذا الشعب للعيش بطمأنينة على أرضه.
نعم وفد اليهود في عام 1943 إلى فلسطين كلاجئين بسبب المعاملة السيئة التي يتعرضون لها في أوروبا، لكنهم الآن يجب أن يفهموا معنى التعايش السلمي بالتخلي عن خزعبلاتهم التي يؤمنون بها، أو محاربتهم بكافة الأشكال ليعودوا مرةً أخرى من حيث أتَوا، الأمر الذي يظهر على المشهد، وما مناوراتهم المكشوفة سوى تمديد لفرصتهم للنيل منا، والتوسع وقتل المزيد من البشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.