من أب هولندي مُهمل..
لدينا أبرز مثال على هذه الحقيقة، النجم الهولندي فيرجيل فان دايك، الذي يكتسب اسماً هولندياً كاملاً هو "فيرجيل رون فان دايك"، لكنك لا تقرأ على قميصه إلّا فيرجيل وحدها، أو فيرجيل فان دايك دون اسم رون، لدرجة قد تصل بك إلى المفاجأة من اسم رون في اسمه الكامل.
رون هو والده الهولندي، الذي تخلَّى عن أسرته بالكامل وقرر أن يطمسها تماماً من ذاكرته، وبعد هروبه من الأم والأبناء خاض تجربة زواج جديدة بعيدة عنهم، وكان فيرجيل فان دايك هو الضحية الأبرز في هذا الهروب.
لم يهرب رون فان دايك فحسب، بل أدار ظهره لهذه الأسرة التي فُرض على أكبرها سناً أن يخرج للعمل في سن صغيرة، وهو قائد ليفربول الحالي فيرجيل فان دايك، الذي كان يغسل الصحون في المطاعم الهولندية مع تركيزه على التدريبات، حيث كان يخرج في خيوط الفجر ويعود في منتصف الليل إلى المنزل.
رأى فيرجيل فان دايك شتات الأسرة، وغياب دور الأب وتهميشه لكل التفاصيل الممكنة في ذلك، وكان فيرجيل فان دايك مُطالباً بأن يتأقلم على كل هذه الظروف الصعبة، الظروف التي جعلته يكتسب طفرةً في النمو أدت إلى هذا الطول الفارع، والكتلة العضلية الضخمة جداً في كل أجزاء جسده.
في فترة من الفترات أصيب فيرجيل فان دايك بمرض جعله يكتب وصيته لأمه، الوصية التي أوصاها فيها بأن تعتني بأشقائه، وألا تُفرط فيهم مثلما فعل والده.
لم يكن فيرجيل فان دايك يعلم أن الأمر لن ينتهي بالفراق، وأن العقد الذي لطالما كان يحلم به سيصله في يوم من الأيام في هولندا وخارجها، وسيخرج من هولندا إلى اسكتلندا، ثم من اسكتلندا إلى إنجلترا، وسيصل به الحال إلى أن يُصبح قائد منتخب هولندا ونادي ليفربول الإنجليزي.
يدعو والده إلى حضور إحدى مبارياته في الدوري الإنجليزي، في محاولة منه لإصلاح الشتات الذي تعايش معه في الماضي، لكن والده رفض تلك الدعوة، فتأقلم من جديد على أن اسمه هو فيرجيل فان دايك فقط، أما رون فهو دخيل على هذه الأسرة.
الأب الغاني الأناني
لم يكن فان دايك هو الهولندي الوحيد الذي تعايش مع هذا الماضي الأسود، لكن الهولندي الآخر كان ممفيس ديباي، الذي يُسقط من اسمه اسم الوالد، الذي هو بالكامل "ممفيس دينيس ديباي".
دينيس ديباي هو الأب الغاني الذي تخلى عن تلك الأسرة، ترك الفتى وأمه يعانيان من ظروف لم يعتادا عليها من قبل، وخرج الأب الغاني نحو غانا وتزوج واستقر هناك.
لم يكن دينيس ديباي يُفكر في ممفيس حينها، وربما لم تكن الأم تستطيع أن تعيش بلا رفيق، فقررت هي الأخرى أن تذهب نحو الزواج من جارها، حيث نشأت بينهما قصة حب جعلتهما يجتمعان في تكوين أسرة: أبناء الجار يتقاسمون المنزل نفسه مع ابنها ممفيس ديباي.
بعد مدة تُلاحظ الأم أن نجلها لا يتمتع بشخصية سوية إطلاقاً، وأن المدرسة تُرسل لها بشكل دوري شكاوى مستمرة بشأن سلوكه وعدوانيته المبالغ بها.
تفشل الأم وحدها، ويذهب ممفيس ديباي إلى أصدقاء السوء، يتعاطى المخدرات ويُتاجر فيها. فبينما كان يُسجل أندريس إنييستا هدفه الشهير في مرمى هولندا في نهائي كأس العالم عام 2010، في جنوب أفريقيا، كان ممفيس ديباي مُتورطاً في قصة لها علاقة بالمخدرات.
بعد سنوات يجد ممفيس ديباي نفسه في صفوف المنتخب الهولندي، وفريق برشلونة وليون الفرنسي وأتلتيكو مدريد الإسباني، لكنه يحذف من على قميصه اسم دينيس ديباي، ويكون اسمه على القميص هو ممفيس فحسب، ويرفض بشكل قاطع أن يُسامح كل من تسبب في هذه الفترة العصيبة عليه التي لا يُمكن نسيانها.
جريمة قتل
لعب جاكوب بواشتشيكوفسكي في صفوف منتخب بولندا الأول، وفريق بروسيا دورتموند الألماني، كان أحد الرجال الذين قادوا يورغن كلوب لنهائي دوري أبطال أوروبا ضد بايرن ميونيخ في الموسم الاستثنائي للجدار الأصفر في عام 2013 في ويمبلي.
يخرج جاكوب المعروف باسم "كوبا" من ماضيه كما يخرج السم من الجسد، ويُحاول أن يتناسى المشهد المرير الذي حدث في ذلك اليوم في طفولته.
دخل جاكوب على والديه في يوم ما، ولطالما اعتاد منهما على الشجار والأصوات العالية وعدم التفاهم، لكن ذلك اليوم كان قاسياً، ربما لأن هذا الشجار كان الأخير وانتهى بشكل مروع.
حيث كانت السكين حاضرة على رقبة الأم تتحرك بسرعة شديدة، يتذكر كوبا كيف كان مشهد الدماء، كيف فاضت روح والدته أمامه، وكيف كان يجلس والده يُفكر في مستقبله المظلم الذي بناه على هذه اللحظة التي تملكه الغضب فيها.
يودع كوبا أمه للأبد، ويُحكم على الوالد بأن يفترق عن نجله، ويدخل السجن لمدة طويلة، يعيش كوبا في شتات في هذه الدنيا، حتى يتقابل مع زوجته ويُنجب ويشعر أن الحياة قد طمست من ذاكرته هذه اللحظات التي لها طعم مرير.
لكن النسيان ليس بهذه السهولة، يجد كوبا صعوبة بالغة في التعامل مع أبنائه، ويشعر بكل لحظة اقتراب من زوجته بأنها أمه، وأنه والده، وأن الأبناء هم طفولته، ويتعايش مع هذا المشهد الشنيع حتى يذهب إلى طبيب نفسي يُعالجه من موقف حدث في الطفولة، لكن دون طائل، فربما تظل تلك المأساة حاضرةً معه لآخر يوم في حياته في هذا العالم.
يقولون في علم النفس إن مثل هذه الحوادث تُسبب أزمات نفسية بالغة في أنفس الأطفال، الذين يشعرون بهذا الشتات الأسري، وتجعلهم عند الكبر يعيشون على فرضيات صعبة، حتى إذا تعايشوا مع أشخاص يتمتعون بحياة هادئة وأسرة رائعة لا يمتلكون مثلها!
ينظر الناس عادةً لنجوم كرة القدم نظرة حاسدة، هذه النظرة سطحية وتختذل إنسانيتهم فتُجردهم من مشوارهم الصعب، والظروف القاسية التي أوصلتهم إلى ما هُم عليه، وهي طبيعة بشرية لا يُمكن تغييرها.
لكن النجوم أغلبهم لم يعيشوا الحياة التي يتخيلها الناس، والتي لا ترتقي حتى لأبعد خيالاتهم، حيث يُمكن أن يكون ما وصل إليه البعض في الوقت الراهن هو في الأصل تعويض عما تعايشوا معه في طفولتهم.
كل هذه العوامل الصعبة تجعل من الإنسان إنساناً آخر، إنساناً يختلف كثيراً ما قبل هذه اللحظات عما بعدها، وسيتوجب عليه أن يتأقلم على ظروف لا يُمكن لأي إنسان آخر أن يتقبلها بسهولة، خاصةً أنها تُفرض عليه دون اختياره ولا موافقته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.