في غالبية أندية أوروبا تجد الذين يمتهنون التدريب من اللاعبين السابقين يمتلكون أسبقية عن نظرائهم لقيادة الفرق الكبيرة، فقط لأنهم مارسوا كرة القدم في المستوى العالي، حيث تقول الأسطورة إن اللاعب السابق يمتلك من المؤهلات المطلوبة ما لا يمتلكه غيره، الأكيد أنكم تتذكرون ذلك الانتصار الساحق الذي حققه أريغو ساكي للعقلانيين حين أطلق قذيفة في أحد المؤتمرات على صحفي حاول استفزازه قائلاً: "لم أكن أعرف أنه كي تصبح فارساً، يجب أن تكون في السابق حصاناً".
ألمانيا التي شهدت انطلاقة الفكر الثوري الشيوعي من مدينة كولونيا، كانت شاهدة أيضاً على ثورة الكفاءة على الخبرة في كرة القدم، بمعنى أنها تغلبت على تلك الفكرة الرجعية التي تقول إن مدرباً يمتلك خبرة 30 سنة لديه قدرة مضاعفة على حساب حالم آخر في سن الـ30.
في الدوري الألماني الممتاز لكرة القدم، البوندسليغا، نجد أن 12 من بين 18 مدرباً تحت سن الأربعين، مع الإشارة إلى أن أغلبية المدربين في هذا الدوري لم يمارسوا كرة القدم في المستوى العالي. بالمقابل، في دوريات أخرى، هناك من يشغلون مناصب تدريبية لكونهم فقط لاعبين سابقين، وما هم إلا مسنون ربما على حافة الإصابة بالزهايمر، يجلبون معهم مجموعة من القيم والمعتقدات الكروية الزائفة، يتسلقون المشهد الكروي فقط لأنهم يمتلكون في سيرهم الذاتية عقوداً من الضياع الكروي.
تعود بداية التحول الفكري في كرة القدم الألمانية إلى صافرة بداية مباراة في الثمانينيات، حين التقى فريق الهواة فيكتوريا بانكنغ مع دينامو كييف، مباراة كان طرفيها الأب الروحي للمدربين الألمان رالف رانغنيك والعراب الأوكراني فاليري لوبانوفسكي، في هذا اللقاء أصيب رالف بالدهشة التي قال عنها أرسطو إنها بداية المعرفة، بعد تلك المباراة خرج الأخير كافراً بالكثير من التابوهات الراسخة ومؤمناً بمعتقدات حداثية جديدة، من ضمنها دفاع المنطقة، تلك المباراة بالنسبة لرالف، لم تمثل فقط إعادة ميلاده كمدرب، بل كانت أيضاً شرارة إعادة ميلاد الفكر الكروي الألماني.
انتقلت شعلة هذه الثورة من رالف إلى كلوب، فقد ذكر يورغن كلوب في أحد لقاءاته مع سكاي أنه كان رفقة رالف رانغنيك وهيلمت جروس يعيدون متابعة مباريات ميلان ساكي لتعلم بعض أساليب الضغط العالي ودفاع المنطقة، حيث كان يقدم الأصلع ساكي كل الأساليب المذكورة بحذافيرها في فريق عُرف والأمتع عبر التاريخ.
شخصياً، كلامي عن كلوب سيكون عاطفي جداً لأنني أعتبره ملهمي الأول كما يعتبره الكثير من الحالمين أمثالي، يورغن ذلك الرجل الذي أبدع وقدم الكثير لكرة القدم، وتسلق بشكل مثالي دون أن يحرق خطوة واحدة في طريقه، كما أنه لم يكن يرتدي معطف اللاعب السابق الذي يعطي للبعض امتيازات غير موضوعية عن غيرهم.
فانطلق يورغن كلوب من مدينة ماينز جنوب شرق ألمانيا نحو ليفربول مروراً بدورتموند، في الأولى والأخيرة كان يمتلك لاعبين بجودة متواضعة جداً، لكنه استطاع خلق بيئة مثالية للنجاح في كل تلك الرحلات ووضع بصماته بدءاً من نادي ماينز الذي صعد به للدرجة الأولى، لنادي دورتموند الذي نجح به في خطف لقبي البوندسليغا وتأهل لنهائي الأبطال بلاعبين من الفئة الثانية، لكن بفضل أفكاره الاستثنائية كان دورتموند بلاعبيه صاحب الكلمة في كل القرارات.
حين وصل يورغن كلوب ليفربول وفي إحدى مبارياته الأولى ضد أتلتيكو مدريد اتهمه الكثيرون بجنون العظمة وشككوا في قدراته؛ لأنه خرج في المؤتمر الصحفي قائلاً: "أتلتيكو مدريد أرادوا الفوز بالكأس، نحن أيضاً أردنا ذلك، لكننا أردنا أن نلعب كرة القدم، أتلتيكو فقط أرادوا الفوز بالبطولة". والأكيد هنا، أن الذين هاجموه لم يسمعوا جملة المدرب الإيطالي مارتشيلو ليبي الشهيرة: "الهجوم القوي يجلب الانتصارات، بينما الدفاع القوي يجلب الألقاب".
بعدها دارت عجلة الزمن، وعاشت تلك المدينة التي كانت أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام رغد الحياة، فقد أعاد لهم الرجل القادم من بلاد الجيرمان السعادة المفقودة، الجميع كان يذكر بوب بايزلي في الثمانينيات وجو فاجان وحقبة رافائيل بينيتيز، كانوا مصابين بالنوستالجيا تجاه كل ما يذكرهم بانتصار مفقود في زمن عفا، يورغن كلوب وكأنه أعادهم للحياة من جديد عندما جلب الدوري المفقود منذ التسعينيات، ودوري الأبطال الذي غاب لعقد ونيف من الزمن، فأصبح بطلاً قومياً لتلك المدينة البوهيمية.
يورغن كلوب ومما لا مراء فيه أنه أحد أفضل المدربين التكتيكيين عبر التاريخ، لسبب بسيط وهو قدرته على الاستكشاف وشغفه الذي لا يموت، كان دائماً متمسكاً بأفكاره وقابلاً للتعلم، انطلق من جامعة غوته لتلمذة على يد رالف رانغنيك الذي تعرّف من خلاله على ساكي، فأسس توجهه الكروي في اللعبة، وأرغم كل الذين واجهوا فرقاً هو على رأسها أن يقروا بأنهم واجهوا أكثر الدقائق ضغطاً في حياتهم خلال 90 دقيقة، حيث كان يُطبق كلوب الضغط الشديد في مختلف جوانب اللعب، فكان يتمتع بمجموعة متنوعة من الاستراتيجيات الهجومية والدفاعية، ما جعله خصماً يُحسب له ألف حساب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.