كريم خان، النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية، لفت الأنظار بإصداره مذكرة توقيف بارزة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وذلك في غضون أقل من عام من توليه المنصب، فخرج كريم خان إلى الإعلام العالمي منتشياً، فيما يغض بصره عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، منذ أكثر من 75 عاماً.
وتبرز هذه الازدواجية في المعايير عند خان عندما يُنظر إلى موقف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة اليوم، إذ لم يصدر من المحكمة غير الصمت الطويل وغياب الإجراءات الجدية تجاه المذابح التي يرتكبها الاحتلال في غزة التي لا يعلو صوت فوق صوتها.
كل هذا الدم وخان لم يجرؤ حتى على فتح تحقيق في الموضوع، بل قام مؤخراً بزيارة إلى الأراضي المحتلة، فيما كان تركيزه على عشرات الأسرى الإسرائيليين وإهماله آلاف الضحايا الفلسطينيين، من بينهم أطفال ونساء ومرضى وشيوخ، في تمييز عنصري واضح ضد الفلسطينيين من جهة، وكأنه يعلنها للعالم أن المحكمة التي يعمل فيها أُسّست للدفاع عن الإسرائيليين قبل غيرهم من البشر.
ولا عجب في ذلك، فقبل تعيينه مدعياً عامّاً دولياً خلفاً لفاتو بنسودا، إذ يبدو أن كريم خان كان المرشّح "المثالي" بالنسبة إلى إسرائيل، كما أشارت صحيفة The Times of Israel في عام 2021، وها هو يثبت للإسرائيليين أنه مثاليٌّ في تضليل الحقائق، وفي الانحياز لطرف على حساب آخر، كما تدلّ تصريحاته مقارنةً بتصريحاتٍ أدلى بها قبل أسابيع إثر زيارته لمعبر رفح، اعتبر فيها أن الحصار ومنع إدخال المساعدات الغذائية والأدوية والطواقم الطبية إلى غزّة "قد يشكّلان تجاوزاً للقانون الدولي الإنساني". وهو في رفح تحدّث عن احتمالات، أما في الكيبوتس الإسرائيلي، فقد سمح لنفسه بإصدار إدانات استباقاً لنتائج التحقيق.
ودعا خان أثناء زيارته لفلسطين المحتلة إلى "الإفراج الفوري عن الأسرى الإسرائيليين الذين تمكّنت المقاومة من أسرهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي". وأضاف: "لا يمكن أن يكون هناك أيّ مبرّر لاحتجاز أي أسرى، ولا سيما الانتهاك الصارخ للمبادئ الأساسية للإنسانية عبر أخذ الأطفال والاستمرار في احتجازهم". بل وتمادى في التماهى مع الرواية الإسرائيلية بقوله إنه "لا يمكن معاملة الأسرى كدروع بشرية أو أوراق مساومة".
في سياق الجدل حول توحيد المعايير القانونية والأخلاقية، يُطرح سؤال محوري: ألا ينبغي للمجتمع الدولي، وتحديداً لكريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أن يدعو إلى الإفراج الفوري عن آلاف المعتقلين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، والتي يشار إليها في التقارير بأنها سجون تعذيب؟ علماً بأنّ من بين المعتقلين الفلسطينيين أطفالاً ونساءً وأطباء ومسعفين اعتُقلوا تعسّفياً واحتُجزوا إدارياً لمدد غير محدّدة.
يستحق هذا السؤال تأملاً عميقاً، خاصة في ضوء تصريحات وأفعال لكريم خان خلال الحرب على غزة. لقد أثيرت تساؤلات حول قدرته وإرادته لزيارة قطاع غزة، حيث ادعى أنه لم يستطع إتمام الزيارة دون توضيح الأسباب الحقيقية وراء ذلك. هذا الادعاء يُلقي بظلال من الشك على نوايا ومصداقية المحكمة الجنائية الدولية، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل ينبغي أن يصدر على الأقل بيان استنكار من المحكمة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تفضيلاً من خان للتصريحات الاستعراضية على الزيارات الميدانية؟
أضف إلى ذلك، زيارة خان للمستوطنات الحدودية التي تعرّضت للهجوم في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستماعه لروايات الإسرائيليين، فنراه يقول: "في كل من كيبوتس بئيري وكيبوتس كفار عزة، وكذلك في موقع مهرجان نوفا للموسيقى في رعيم، شهدت مشاهد من القسوة المتعمدة". ولا يتمالك هنا خان نفسه من إظهار ازدواجيته، فكيف يمكن أن يحسم المدّعي العام، عبر زيارة واحدة واستناداً إلى أقوال أشخاص التقاهم، أن "القسوة" كانت "متعمّدة"؟ ألا يشكّل ذلك خلاصةً تستبق التحقيق؟
يُثير لقاء خان مع عائلات الأسرى الإسرائيليين وذوي القتلى أسئلة جادة حول الانحياز والمعايير المزدوجة، فعلى الرغم من تأكيده على الشراكة معهم "كجزء من عملنا المستمر لمحاسبة المسؤولين"، يبدو أن خان لم يعطِ الأولوية المماثلة لعائلات الضحايا الفلسطينيين، إذ لم يوجّه أية رسالة "واضحة" إلى ذوي آلاف الضحايا الفلسطينيين والناجين من القصف الإسرائيلي على المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد.
وإن غياب رسالة واضحة من خان لهؤلاء الضحايا هي رسالة أوضح في مضمونها، ألا وهي أن خان لا يريد أن يعمل مع الجميع من أجل محاسبة المسؤولين، بل هو على استعداد للعمل مع الإسرائيليين فقط.
إن خان عبّر بوضوح عن موقف متحيز لصالح إسرائيل في تعليقاته، مشيراً إلى "الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي الإنساني من قبل المقاومة والجماعات المسلحة الأخرى في غزة"، في حين صور رد إسرائيل على هذه الهجمات بأنه متوافق مع "معايير قانونية واضحة تحكم النزاع المسلح". هذا التوصيف يقدم دليلاً على تبنيه لازدواجية المعايير، حيث يبدو ميالاً لتجاهل الأدلة الموثقة على الانتهاكات المنسوبة للجيش الإسرائيلي، والتي تشمل استهداف المدنيين، والمستشفيات، والإسعافات، والمدارس، باستخدام أحدث وأكثر الأسلحة تخريباً ودماراً.
بالإضافة إلى ذلك، وسّع خان هذا الموقف بتصنيف حماس كمنظمة إرهابية، متجاهلاً حقيقة أن هذا التصنيف هو بالأساس قرار سياسي صادر عن دول غربية وليس قراراً صادراً عن الأمم المتحدة. هذا التصنيف يعزز الانطباع بأن خان يتبنى نهجاً يميل إلى تأييد السردية الإسرائيلية، متجاهلاً السياق الأوسع للصراع والدور الذي تلعبه الديناميكيات الجيوسياسية في تشكيل هذه الأحداث.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.