من القضايا التي تُثار كل مرة، ويتكرر طرحها كموضوع لنقاش لا ينتهي، الاختلاف حول توصيف أو الحكم على الدور الذي اشتهرت به قطر كوسيط إقليمي ودولي، ويأتي التباين في تقييم هذا الدور من التناقض الذي يبدو بالنظر لحجمها كإمارة صغيرة، لا تمتلك عوامل القوة الكلاسيكية (لا المساحة، لا القوة البشرية، لا القوة العسكرية، لا الموقع المؤثر… إلخ) مقابل حضورها القوي في مجالس الكبار، ومشاركتها الفعالة في حل الكثير من القضايا والصراعات. وزادت حدة الجدل حول قطر بعد "طوفان الأقصى"، خاصة مع بروزها كوسيط دائم بين المقاومة الفلسطينية من جهة، والاحتلال الإسرائيلي وأمريكا من جهة ثانية، وفي تقديري أن إساءة الظن بقطر وبأدوارها في القضية الفلسطينية مردّه أسباب مختلفة، أهمها:
1- حملة التشهير والتشويه المنظمة التي تمارسها دول محور -الثورة المضادة- عبر إعلامها وذبابها الإلكتروني، والتي لم تخفِ حقدها وعداوتها لقطر وقيادتها التي استقلت بمواقفها وتمايزت بسياساتها عنهم في مختلف المجالات.
2- ثقافة سوء الظن، أو لنقل غلبة ثقافة التفسير المؤامراتي، التي تحوّلت إلى إشكال منهجي في التحليل، أسبابها تاريخية أساساً.
3- سوء إدراكنا لطبيعة الممارسة السياسية ومقتضياتها وتعامل الكثير منا معها بمنطق"الكل أو لا شيء"، وهذه النظرة القاصرة هي ناتج مباشر عن ثقافة الاستبداد في الحكم التي أبعدت الكفاءات من الناس عن العمل السياسي، وحرّفت وشوّهت مفهومه في ثقافتنا الجمعية.
ومن المهم هنا التذكير بأن الطعن في دور قطر وعدم الثقة فيها عبّر عنه الاحتلال نفسه في عدة مناسبات وبطرق مختلفة، فكثيراً ما أعلن قادته أنهم لا يثقون في قطر، ويفضلون الوساطة المصرية، وربما هذا مفهوم، ولقد اقترحوا مؤخراً دولاً عربية أخرى بكونها أنسب من وجهة نظرهم!
كيف استطاعت قطر بناء قوتها إقليمياً ودولياً؟
استطاعت قطر أن تكتسب قوة دولية من خلال خطة ورؤية واضحة منذ منتصف التسعينيات، جوهرها، هو السعي لاكتساب قوة ناعمة فريدة، مع الإدراك لاستحالة تحول قطر إلى قوة كلاسيكية بسبب عوامل مختلفة.
فنرى اليوم، كيف صارت الدوحة وجهاً لحل أزمات كبرى، فعلى سبيل المثال لجأت أمريكا لقطر في قضية طالبان، بالإضافة لذلك أصبحت وسيطاً موثوقاً حتى في القضايا التي ليست عربية أو حتى إسلامية، كحرب روسيا الأخيرة، والدور القطري في المفاوضات الأمريكية – الفنزويلية.
نجحت قطر مع مرور الوقت، في كسب هذه القوة واستثمارها، وفرضت نفسها على الساحة الدولية. إذا نظرنا إلى العوامل التي ساهمت في هذا النجاح، نجد أنها تشمل:
- الثروة المالية والطاقوية، مثل النفط والغاز.
- القوة الإعلامية، ممثلة بشكل خاص في قناة الجزيرة، التي لها تأثير واسع النطاق عربياً وتحضر بقوة على المستوى الدولي.
- الانفتاح على مختلف القوى والتعامل مع كل التيارات على الأرض.
- العلاقة القوية والمتميزة مع تنظيمات التيار الإسلامي المختلفة.
- الاستثمارات الواسعة والمتنوعة في مجالات متعددة كالتجارة، الصناعة، الرياضة، والثقافة، وذلك في مختلف بقاع العالم.
قطر والقضية الفلسطينية
في القضية الفلسطينية، تبرز قطر كلاعب رئيسي يتمتع بعلاقة جيدة مع جميع الأطراف. من جهة، تواصلها قوي مع سلطة التنسيق الأمني، حيث تقدم لها مساعدات مالية تصل إلى حوالي 400 مليون دولار سنوياً. من جهة أخرى، تُعد قطر من الدول القليلة التي تتعامل معها المقاومة وتثق في دورها كوسيط. لقد أظهرت قيادات المقاومة، وآخرها ما أعلن عنه "الدكتور موسى أبومرزوق" الرئيس الأول للمكتب السياسي لحركة المقاومة "حماس" بأنهم رفضوا العرض الفرنسي، معبرين عن ثقة كبيرة في دور قطر كوسيط، مفضلين العروض التي تقدمها على عروض أخرى، مثل ذلك العرض الفرنسي لتوفير الدواء، وقد كانت الوساطة القطرية أساسية في مختلف جولات التفاوض التي تلت الأحداث الكبرى.
هذا الموقف من المقاومة يعكس وعياً عميقاً بطبيعة البيئة المعادية التي تحيط بها، والتي في غالبها لا تؤيد مطالب التحرر. التاريخ القريب والتجارب السابقة أثبتت أن معظم السلطات تعمل لصالح سياسات الاحتلال وأهدافه، ومن الخطأ الاعتماد عليها، إذ أشار ملخص صادر عن "المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية" إلى موقف النظام المصري من القضية الفلسطينية، موضحاً أن السياسة المصرية تجاه غزة، خاصة منذ 2014 تتشارك مع مصالح " وهي تدمير حماس والجهاد الإسلامي، وإعادة حكم السلطة الفلسطينية إلى غزة. ويدعم هذا الهدف عدد لا بأس به من الدول السنية في المنطقة، ولو بهدوء".
هذه المؤشرات تكشف عن المؤامرات التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتحويل الفلسطينيين إلى "هنود حمر" جدد، فمنذ الهزيمة التي منيت بها المقاومة بقيادة ياسر عرفات وإبعادها عن ميدان المعركة، ثم تدجينها وتحويل بندقيتها إلى مجرد زينة للأعراس والمناسبات الرياضية تحت قيادة محمود عباس، اتجهت جميع المسارات لتصفية القضية عندما كانت الوساطة في المفاوضات تتم عبر حكومات محور الثورة المضادة، وعلى رأسها المصرية خاصة، والأغرب حمق القيادة الفلسطينية حينها والذي يتجلى في تسليمها وثقتها في الإشراف والرعاية الأمريكية على تلك المفاوضات ، أو مسارات التسوية المختلفة!
لماذا قطر؟
كنتيجة لما سبق وذكرته في سياق النقاش حول الدور القطري في الوساطة، أود التأكيد للمنتقدين الذين ينظرون من منطلق دعمهم للمقاومة وحرصهم على سلامتها، على أهمية وجود وسيط في أي صراع. إن ثقافة الصراعات ومخرجات الحروب تفرض ضرورة وجود وسيط. نستذكر هنا الثورة الجزائرية التي، رغم اعتمادها على القوة العسكرية، اختتمت بنتائج رئيسية تم تحقيقها من خلال مفاوضات مع المحتل الفرنسي، والتي عُرفت باتفاقيات إيفيان، والتي تمت بوساطة الحكومة السويسرية.
الخلافات الأسرية تستدعي وسطاء (حكماً من أهله وحكماً من أهلها)، وحتى القوى العظمى مضطرة إلى ذلك فهاهي أمريكا، شرطي العالم، المتغولة بقوتها تحرص على وجود وسطاء لفرض حلولها في صراعاتها التي لاتنتهي.
في الصراع القائم مع الغرب في أرض فلسطين، وجود وسيط يصبح ضرورياً في مختلف مراحل الصراع، ولنتفق ابتداء على أن الإشكال ليس في ضرورة الوسيط، بل في مواصفاته التي تطمئننا على دوره. فالغرب المنافق يوظف كل شيء لتغليب كفة المحتل فهاهي التجربة تكشف لنا استعمالهم لمؤسسات الإغاثة والهيئات الدولية للتجسس وكشف مكامن الضعف لدى المقاومة.
فالعبقرية إذن هي في اختيار الوسيط النزيه الذي يمكننا الاعتماد عليه، والذي يجب أن يكون على نفس المسافة بين طرفي الصراع، يمتلك قدرات كافية لإدارة جولات التفاوض وتحمل ضغوطها، أن يكون مدركاً لطبيعة الصراع بعمق، ومستعداً لتقديم التعويضات المادية لتقريب وجهات نظر المتخاصمين.
تتوافر هذه المواصفات في قطر وقياداتها، والأهم من ذلك ثباتها على مبادئها المعلنة. فنصرتها ودعمها للقضية الفلسطينية ثابت ولم يُسجل عليها استغلالها لخدمة مصالحها الخاصة. وكانت تجربة كأس العالم 2022 ومقاومة قطر للضغوط الشديدة التي تعرضت لها لتمرير أجندات معاكسة لمبادئها، ربما مؤشر لتطمئن المقاومة على أمانة قطر كوسيط وكداعم للمقاومة والقضية الفلسطينية. ويجب التذكير بأن هذا لا يعني أن نفهم أن الدولة الوسيطة هي جمعية خيرية تقدم خدمات للطرفين بمنطق "الإحسان"، بل مصالحها محققة أيضاً بأشكال مختلفة، المهم ألا تكون على حساب القضية الأم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.