قبل أيام، حكم على رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان وزوجته بشرى بيبي، بالسجن 14 عاماً، في قضية تتعلق ببيع هدايا تلقتها الدولة، هذا بجانب حكمين آخرين في غضون أسبوع. وفقاً للأحكام الصادرة، تم منع عمران وزوجته من أهليتهما في شغل أي منصب عام لمدة 10 سنوات، ويأتي كل ذلك قبل الانتخابات الوطنية المقررة الخميس المقبل، والتي سيحظر عليهما خوضها، وبعيداً عن هذه الاتهامات وسياقاتها السياسية.
منذ ذلك الوقت وأنا أتساءل: ماذا لو كان عمران خان مسؤولاً عربياً، هل كان سيتم الحكم عليهم في قضايا تتعلق بالفساد المالي واستغلال موارد الدولة حتى ولو زوراً؟! لا أعتقد؛ لكونها صارت سمة من سمات المسؤولين لدينا، لذلك ليست هذه القضايا التي يتهم بها المسؤولون في بلادنا حتى ولو من باب فقط الإطاحة بهم.
إذ أتذكر واقعة وثائق بنما المسربة التي تم تسريبها عام 2016، والتي كانت تعد واحدة من أضخم الوثائق المسربة في ذلك الوقت.
بدأت القصة، عندما تواصل شخص مجهول مع صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ الألمانية" (Süddeutsche Zeitung )، وقام بإرسال مجموعة من الوثائق التي تتعلق بمؤسسة قانونية، مقرها في بنما، تسمى موساك فونسيكا (Mossack Fonseca)، وتبين أن الشركة تقوم ببيع شركات "أوفشور"، تتيح لبعض مالكيها تغطية صفقاتهم الوهمية، وغسل أموالهم، وتسيير أنشطتهم المالية المحظورة. مع مرور الوقت، بدأت الوثائق بالتراكم، حتى وصلت إلى رقم مهول، لم تتمكن صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" من التعامل مع الوثائق وحدها، فقامت بالتعاون مع الجمعية الدولية للصحفيين الاستقصائيين، بمشاركة أبرز المؤسسات الصحفية العالمية، مثل مجموعة "بي بي سي" و"الغارديان" البريطانيتين، وصحيفة "لوموند" الفرنسية، إضافة إلى الصحيفة الألمانية، وصحف أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
كشفت تلك الأوراق حينها والمُقدرة بنحو 11.5 مليون وثيقة، وإيميلات وقواعد بيانات وصور، ووثائق نصية، تغطي الفترة ما بين 1977 و2016، عن معلومات أنشطة مالية لـ72 رئيس دولة، وقرابة 143 سياسياً مع عائلاتهم، ممن ارتبطت أعمالهم بـ"صفقات مشبوهة". فأثارت بشكل مباشرٍ موجة من التحقيقات القضائية، في قضايا تتعلق بالتهرب الضريبي، والتحايل على قوانين التمويل المالي، وتسجيل شركات وهمية من أجل عقد صفقات مشبوهة.
وكانت المفاجأة التي حملتها سطور هذه الأوراق، وجود أسماء رؤساء دول عربية وشخصيات مسؤولة، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة حينها.
إذ كشفت "أوراق بنما" تفاصيل حول فساد أقارب الرئيس السوري بشار الأسد، رامي مخلوف، وحافظ مخلوف، إضافة إلى الفساد المالي الذي تورط فيه علاء مبارك، ابن الرئيس المصري حسني مبارك، الذي أطاحت به ثورة 25 يناير في 2011. كذلك تكشف الوثائق معلومات عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق، إياد علاوي.
في ظل الفضائح المالية التي كشفتها "أوراق بنما"، تبرز العديد من النقاط الجوهرية التي تعكس غياب مواجهة الفساد وتحقيق العدالة، خاصةً في ما يتعلق بشخصيات سياسية وقادة دول. فبينما تكشف هذه الوثائق عن تورط عدد من القادة والمسؤولين في صفقات مالية مشبوهة، يظل ملف محاسبتهم داخلياً ومقاضاتهم أشبه بالخيال حتى بعد سقوط سلطتهم في دولة كمصر أو ليبيا.
إمبراطورية عائلة الأسد
تُسلط هذه الحالة الضوء على أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق في تحقيق العدالة أو حتى المطالبة بها، ألا وهو حالة التماهي بين الفساد والوعي العام للمؤسسات الداخلية لتلك الدول، إذ خلقت جواً من حصانة الفساد يصعب معه تحقيق العدالة، فعلى سبيل المثال، قاد بشار الأسد تحولاً اقتصادياً في سوريا، بعد توليه مقاليد الحكم في دمشق سنة 2000، كانت أبرز ملامحه التخلي عن السياسات المحافظة التي رسخها والده، حافظ الأسد، خلال فترة حكمة لسوريا التي قاربت الثلاثة عقود. اتسم "الإصلاح الاقتصادي الليبرالي" للدولة، بملامح عدة، أهمها صعود طبقة جديدة من رجال الأعمال، المرتبطين بالأسد، والذين سيطروا بشكل واسع على الاقتصاد السوري، ورُصد إثراؤهم السريع، بسبب علاقاتهم بالسلطة، متمثلة بالأسد.
والمحور الثاني، والمتصل بالأول، كان تدمير البنية الاقتصادية التقليدية في سوريا، المعتمدة على التجارة المحلية ومع دول الجوار، والزراعة، وتجاهل الدولة لسياساتها القديمة التي شملت تثبيت الأوضاع الاقتصادية للمواطنين عند مستوى معقول نسبياً، لتحل محلها بنية اقتصادية نيوليبرالية– إن صح الوصف– فاقمت من تهميش الفقراء، وأولئك الواقعين خارج دائرة السلطة، ما أدى في نهاية المطاف إلى زيادة تهميش المناطق التي تُوصف في سوريا بأنها "مناطق محرومة" والتي أصبحت لاحقاً ميداناً رئيسياً للثورة السورية على نظام الأسد، التي انطلقت في 2011 ضمن ثورات الربيع العربي.
ابنا خالة الأسد، رامي وحافظ مخلوف، كانا من الأسماء البارزة الصاعدة في حقبة بشار الأسد، منذ 2000، وامتلكا نفوذاً اقتصادياً هائلاً في دمشق، بسبب علاقتهما العائلية به. وقد عُرف على نطاق واسع، أن أي شركة أجنبية تريد العمل في سوريا، بحاجة إلى "تعميد" رامي مخلوف، الذي ظهر كأنه متحكم في الاقتصاد السوري ككل. ويحمله السوريون مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، خلال العقد "الهادئ" لحكم الأسد من 2000 وحتى 2010، والذي عُرف بوعود الإصلاح التي لم يجن منها السوريون إلا الإصلاحات الاقتصادية الشكلية.
وطالت العقوبات الدولية كلاً من رامي مخلوف، وشقيقه حافظ (الذي يدير حالياً حساباً غير مجمد في سويسرا يحوي قرابة أربعة ملايين دولار)، بسبب الدور الذي أدّاه الأخوان في دعم جرائم الأسد بحق الشعب السوري، بعد ثورة 2011 على حكمه.
حسني مبارك وعلاء مبارك
ورد اسم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في "أوراق بنما" من خلال ابنه الأكبر علاء مبارك، الذي اتضح أنه يمتلك شركة استثمارات عالمية عملاقة مسجلة في الجزر العذراء البريطانية ويديرها بنك "كريديت سويس".
وتضمنت الوثائق صورة ضوئية مصدّقة لجواز سفر علاء مبارك تبين أنه من مواليد العام 1960، ويعمل بوظيفة "أعمال حرة". كما تتضمن الوثائق بعض المراسلات المتعلقة بالشركة التي يمتلكها علاء مبارك لكنها لا تحدد على وجه الدقة حجم أصولها.
يُذكر أنه في أبريل/نيسان من العام 2011، اعتقل علاء مبارك مع والده وشقيقه جمال، بعد استقالة حسني مبارك من رئاسة الجمهورية تحت ضغط ثورة 25 يناير الشعبية.
وفي العام ذاته صدرت تعليمات من الاتحاد الأوروبي إلى "موساك فونسيكا" تقضي بتجميد أصول شركة علاء مبارك الاستثمارية، ورغم ذلك، تم إخلاء سبيلهم بعد سنوات حين ألغت محكمة النقض المصرية حكماً سابقاً صدر بحقهما في قضية الفساد.
على الرغم من كل هذه الدلائل فإنه لم يتم تنفيذ أحكام رادعة ضد هؤلاء المسؤولين، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن وضع العدالة في بلداننا العربية، هل ستظل معصوبة العينين؟ وإذا كانت "أوراق بنما" قد كشفت عن هذا الكم الهائل من الفساد والتلاعب، فإن السؤال المُلح يظل قائماً: ما حجم الفساد الذي لم يُكشف عنه بعد؟ ما مقدار ما لا يزال مُخفياً في ظلام دامس، بعيداً عن أعين تلك العدالة العمياء؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.