شهدت العديد من المدن الأوروبية تظاهرات داعمة للقضية الفلسطينية، ودعوات مفتوحة إلى الحكومات الأوروبية لتحمّل مسؤولياتها بالضغط على إسرائيل لوقف حرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
الشعب الهولندي يفضح تواطؤ حكومته
شهدت العديد من المدن الهولندية تظاهرات في مختلف محطات القطارات؛ دعماً للقضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة. كما أن المتظاهرين نظموا احتجاجات في 15 محطة قطار في 14 مدينة هولندية، وفي مقدمتها أمستردام وروتردام ولاهاي وأوتريخت. وردد المتظاهرون شعارات لدعم غزة، كما نددوا بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل في القطاع، والدعم الذي تقدمه الحكومة الهولندية للاحتلال.
ويبدو أنّ هولندا أصبحت مهد تعارض التقاليد التاريخية في الدفاع عن حقوق الإنسان بين الحكومة والشعب. فبحسب تقرير نشرته صحيفة NRC الهولندية في 22 يناير، هاجم 20 موظفاً في وزارة الخارجية الهولندية (يشغلون وظائف رئيسية في مكاتب شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) خلال رسالة مفتوحة خاطبوا فيها محكمة الاستئناف، إدارة رئيس الوزراء وشخص رئيس الوزراء، "مارك روته"، واتهموه بالتكتم عن الحقائق والمعلومات التي تشير إلى انتهاك النظام الإسرائيلي للقوانين الإنسانية والقوانين الدولية. وأكدت هذه الرسالة على أن الحكومة الهولندية تصرّ على مواصلة إرسال قطع غيار مقاتلات إف-35 إلى إسرائيل رغم التحذيرات الجادة من احتمال حدوث انتهاكات خطيرة لقوانين الحرب الدولية.
كما اعتبر هؤلاء أن تطلعات هولندا و"مارك روته" بشأن تولي منصب الأمين العام لحلف الناتو في الصيف المقبل وضرورة التصويت الإيجابي للولايات المتحدة للحصول هذا المنصب كانت من أهم أسباب تغاضي هولندا عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة وتأخرها في طلب وقف فوري لإطلاق النار مع بداية التصعيد واقتصارها على مناورات سياسية تمثلت بوقف مؤقت لإطلاق النار لإدخال المساعدات الإنسانية وحسب، دون الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار.
كما كشفت الرسالة عن موقف شاذ ومخالف لهولندا عن الاتحاد الأوروبي، وهو المشاركة في التحالف الأمريكي-البريطاني لضرب اليمن، بدلاً من اختيار الطريق الأسهل، وهو السعي لوقف الحرب على قطاع غزة.
وفي العام الماضي نشرت هذه الصحيفة مقالاً مفصلاً حول استقالة سفيرة هولندا في فلسطين (باربار فان دير وود) احتجاجاً على موقف حكومتها الرافض لمحاسبة إسرائيل عن الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين.
أسباب تصاعد الدعم الشعبي الأوروبي للقضية الفلسطينية
لم يقتصر تراجع مكانة إسرائيل دراماتيكياً على هولندا، بل تعدتها إلى جميع الدول الأوروبية، وهذا يعتبر اتجاهاً لم يكن وليد الحرب الحالية، بل هو معقد ومتعدد الأوجه، تطور عبر سنوات من الحصار والقتل والتشريد الذي مارسته إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وفي قلب هذا التحول هناك سلسلة من القضايا الراسخة، التي تساهم كل منها في تآكل صورة إسرائيل على الساحة الدولية. ويسعى هذا التحليل إلى تفكيك هذه العوامل الحاسمة، واستكشاف أصولها والطرق التي أثرت بها على التصورات في جميع أنحاء أوروبا.
أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تراجع شعبية إسرائيل هو تصرفاتها الحالية والتاريخية في غزة. لقد أثارت الهجمات العسكرية المتكررة على قطاع غزة، والتي اتسمت بخسائر كبيرة في صفوف المدنيين وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية، انتقادات حادة في جميع أنحاء العالم. وكثيراً ما يُنظر إلى هذه الأعمال على أنها وحشية وبربرية، حيث يصعب التوفيق بين الخسائر البشرية المرتفعة في صفوف المدنيين ومبادئ القانون الإنساني الدولي. وقد لعبت الروايات المرئية والسردية لهذه الصراعات، والتي تم نشرها على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، دوراً مهماً في تشكيل الرأي العام. إن صور الدمار وقصص الخسائر البشرية والمعاناة يتردد صداها بعمق لدى الجماهير الأوروبية، مما يعزز الشعور بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني والرفض المتزايد للسياسات الإسرائيلية.
ومما يزيد من تفاقم هذا الوضع، هو الحصار المفروض منذ أكثر من عقد من الزمن على قطاع غزة والذي تحول إلى سجن كبير ضم ويضم أكثر من 2.3 مليون نسمة في أكبر تجمع سكاني في نقطة جغرافية واحدة في العالم. ولم يقتصر هذا الحصار على تقييد حركة البضائع والأشخاص، مما أدى إلى عواقب إنسانية وخيمة فحسب، بل اعتُبر أيضاً شكلاً من أشكال العقاب الجماعي ضد السكان المدنيين في غزة. ويُنظر إلى تأثير الحصار على الحياة اليومية، بما في ذلك نقص الأدوية الأساسية، وانعدام الأمن الغذائي، وعدم الحصول على المياه النظيفة والكهرباء، على أنه أزمة حقوق إنسان مستمرة. إن الجماهير الأوروبية، التي تتمتع بتقاليد قوية في دعم حقوق الإنسان، تجد أن الظروف في غزة تتعارض مع هذه القيم، مما يؤثر بشكل أكبر على وجهة نظرها تجاه إسرائيل.
كما تلعب معاملة السلطات الإسرائيلية للفلسطينيين على مدار أكثر من 75 عاماً دوراً حاسماً في تشكيل التصورات الأوروبية. وقد ساهمت التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة، والاعتقالات الإدارية، والقيود المفروضة على الحركة عبر الجدار العازل ونقاط التفتيش، في سرد القمع الممنهج. وتتعزز هذه الرواية من خلال شهادات الفلسطينيين وعمل منظمات حقوق الإنسان، التي توثق حالات سوء المعاملة والتمييز. إن مثل هذه الممارسات، عندما ينظر إليها من خلال عدسة القيم الأوروبية، التي تعطي الأولوية لحقوق الإنسان وسيادة القانون، تؤدي إلى تقييم نقدي للسياسات الإسرائيلية.
ومن القضايا المهمة الأخرى هي مصادرة الممتلكات والأراضي الفلسطينية، إلى جانب توسيع المستوطنات الإسرائيلية. وكانت المستوطنات، التي تعتبر غير قانونية بموجب القانون الدولي، نقطة خلاف طويلة الأمد. ويُنظر إلى النمو المستمر لهذه المستوطنات، والذي يكون في كثير من الأحيان على حساب المجتمعات الفلسطينية النازحة أو التي تم الاستيلاء على أراضيها، على أنه عقبة مباشرة أمام السلام. ولا ترمز قضية المستوطنات إلى عدم تكافؤ القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، بل إنها تتحدى أيضاً إمكانية التوصل إلى حل الدولتين، وهو الاحتمال الذي يدعمه العديد من الأوروبيين باعتباره طريقاً للسلام في المنطقة.
وأخيراً، فإن صعود الحركة الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية في أوروبا يدل على تحول أوسع في الوعي العام نحو ما يُنظر إليه على أنه آخر حركات التحرر للتخلص من الاستعمار حول العالم. وقد اكتسبت هذه الحركة، التي تضم مجموعة واسعة من الناشطين ومنظمات المجتمع المدني والجماعات السياسية، زخما في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بشعور التضامن مع القضية الفلسطينية. وتستفيد الحركة من وسائل التواصل الاجتماعي والمظاهرات العامة وجهود الضغط لرفع مستوى الوعي والضغط على الحكومات والمؤسسات لإعادة النظر في مواقفها تجاه إسرائيل. إن تأطير النضال الفلسطيني باعتباره كفاحاً من أجل حقوق الإنسان الأساسية وتقرير المصير يلقى صدى لدى الجماهير الأوروبية، الذين ينظرون إليه من خلال منظور تجاربهم التاريخية مع الاستعمار والنضال من أجل التحرر الوطني.
في الختام، يمكن أن يُعزى تراجع شعبية إسرائيل في الدول الأوروبية إلى مجموعة من العوامل، كل منها مترابط ويساهم في تغيير السردية. إن العمليات العسكرية في غزة، والحصار، والمعاملة التي يلقاها الفلسطينيون، وقضية المستوطنات، وصعود حركة تدعم الحقوق الفلسطينية، كلها عوامل أثرت بشكل جماعي على الرأي العام الأوروبي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.