إلى وقت قريب كانت مواقع التواصل الاجتماعي مرتعاً للتفاهة، يتسيد مشاهير الكرة والغناء ونجوم الاستعراض منصاتها، حتى أصبحوا أدوات تتجاوز عمليات الإلهاء والتخدير التي كانوا يمارسونها في السابق، لتتحول إلى عمليات مسخ كبرى تطال إنسانية الإنسان فتُشوّه طباعه وتُفسد فطرته، فنشأ جيل لا يعرف إلا هذا العالم الاستهلاكي القذر، لكننا مع عملية طوفان الأقصى، ومع اشتداد الحرب على غزة، والصمود الأسطوري لمقاومتها، فإن الصورة قد بدأت تتململ، حيث احتل رموز المقاومة وأبطالها موقعاً متقدماً عند الرأي العام العربي والإسلامي، رغم أنف الخوارزميات الإلكترونية التي تضيّق على القضايا الجادة، وعلى رأسها محتوى القضية الفلسطينية، ليعود كل أولئك المؤثرين أمامهم إلى قزميتهم وإلى ضحالتهم.
أبطال غزة ومؤثّروها الحقيقيون من عالم آخر، لا يتصنّعون ولا يتجملون، ولا يبحثون عن الأضواء، لا يتاجرون بمآسي غيرهم، وكيف يفعلون وهم في قلب المحنة، ذلك أنهم يعطون النموذج من مأساتهم، فيصبرون ويتصبرون، ويلقنون العالم المتهافت المرتعد اليقين الذي أضحى عملةً نادرةً هذه الأيام، إنما يقومون بواجبهم وحسب، لكن ذكرهم قد ارتفع بين الناس رغم حرصهم على التواري عن الأنظار.
ومع ذلك، فقد سلَّطت الكاميرا الأضواءَ على عدد منهم، مثل الصحفي اللامع وائل الدحدوح، الذي تعالَى على جراحاته ومعاناته، لينقل حقيقة الحرب القذرة على شعبه، ومنهم من كان مغموراً بين الناس خامداً ذكره إلا بين دائرة معارفه الصغرى، فأصبح بين عشية وضحاها شاغل الناس، مثل روح الروح، الإنسان الطيب الراضي بقضاء الله وقدره بعد استشهاد حفيدته، أو ذلك الرجل الصلب الذي أظهر تماسكاً فريداً وهو يدعو ابن أخيه للتماسك وعدم البكاء، رغم مصابه الجلل بفقدان ابنه.
ومنهم مَن ظلّوا جنوداً مجهولين، نسبتهم هي بطولاتهم، فلم ولن نعرفهم إلا بعد مغادرتهم دنيانا، لكننا رأينا آثارهم وعظيم صنيعهم على الأرض، مثل عاهد أبو ستة، صاحب الصرخة المدوية "ولعت"، التي أطلقها بعد تمكّنه من استهداف أحد تجمّعات الجيش الصهيوني، والتي لخَّصت فعل المجاهدين الميداني بقوات الاحتلال الغاشم، أو مهند رزق جبريل، صاحب مقولة "حلِّل يا دويري"، الذي دعا أبرز المحللين العسكريين العرب لإبراز إبداع الفعل المقاوم لعامة المتابعين، كما أن هناك آلاف القصص التي تستحق أن تُروى، والتي تُنسب لأشخاص ممن لم نُخبر عنهم إلا النزر اليسير، فمنهم أهل الثغور، ومنهم المسعفون والأطباء وعناصر الدفاع المدني والمتطوعون، والذين شكَّلوا لوحةً ملحميةً قلَّما يجود بها الزمان، والتي أظهرت المعدن النفيس لأهل القطاع الصامد.
لقد افتقد الناس المعاني التي أحيتها معركة طوفان الأقصى من الثبات، ومن الشجاعة والإقدام وطول نفس المقاومين، الذين ما ملّوا وما كلّوا من التعبير عن حقِّهم في استرجاع أرضهم، والعمل بتفانٍ من أجل تحقيق هذا الهدف في الوقت الذي أضحت فيه التقلبات حتى في المواقف والمبادئ موضة العصر، وتعبيراً عن الحكمة والرزانة ومسايرة للمرحلة، وما ظهر للعالم إلا عينات من جبل من التضحيات الجِسام التي ارتقى على إثرها من قبل أفواج من المجاهدين، ومن بينهم شهداء الإعداد، الذين عملوا بما تيسر بين أيديهم من وسائل لتشييد منظومة أنفاق أبهرت العدو قبل الأخ والصديق.
قلب أبطال غزة الذين تحوّلوا إلى أيقونات عالمية للتحرر من سطوة الاستكبار العالمي معادلاته، وأربكوا مخططات تصفية القضية الفلسطينية وإدخال المنطقة إلى العصر العبري، فأكدوا أن ما قبل عملية طوفان الأقصى ليس كما بعدها، ما شكَّل بقعة ضوء تنير منطقتنا من قتامة أوضاعها ومن موجات الإحباط التي أفقدتها الثقة بذاتها، كما أن التضامن الواسع من أحرار العالم معها أظهر تعطشاً لنموذج إنساني يتمرد على العالم الجديد المتصحر من أية قيمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.