قد يكون برتغالياً، لكنه وُلد ونشأ في أرض الرأس الأخضر في قارة أفريقيا؛ حيث قرر والداه أن يُغادرا هذه الأرض نحو الأراضي البرتغالية، وتنتقل الأسرة بالكامل من معاناة أفريقيا إلى نعيم أوروبا.
لم يكن تباعد المكان هو وحده من تسبب في تدمير طفولته، كان القرار الذي اتخذه الوالدان كذلك بالانفصال، وترك الطفل الصغير لجدته تُعاني به ومعه في كل مكان في البرتغال.
بعد أن علمت السلطات في البرتغال بحقيقة الأمر، قررت ألا تتركه في أحضان جدته التي كانت أحق الناس به، غابت الجدة ليوم، شهر، سنة، حتى انقضت الثماني سنوات في كذبة اخترعتها الجدة لمحاولة تبرير رحيلها عنه.
شقيقه الأكبر لم يكن يستطيع نطق اسمه المُعقد، الذي هو بالكامل "تياجو مانويل دياز كوريا" ونطقه بيبي؛ أي الطفل الصغير بالإنجليزية كناية عن الفارق العمري بينهما.
الملجأ الذي وُضع فيه بيبي، لم يكن يجمعه بشقيقه، تشتت الأسرة كاملة في كل مكان في البرتغال، وكان على بيبي أن يتعايش مع هذه الفترة الصعبة والقاسية من حياته.
في المجال الذي كان تابعاً للكنيسة الكاثوليكية في البرتغال، تعلم تياجو مانويل كل شيء خاص بالحياة: الصلاة، التعلم الذاتي، الترفيه عن النفس، وفي الكنيسة شاهدوا عليه أمارات التفوق الرياضي والجودة الكبيرة في لعبة كرة القدم.
بعد مدة، تهل علينا بطولة "كأس العالم للمشردين"، نعم، هناك بطولة كأس العالم للمشردين في كل مكان في العالم، الذين يعيشون في الملاجئ، وكان تياجو مانويل من بينهم بل ربما أبرزهم.
كانت فكرة السفر من البرتغال غير مقبولة بالنسبة لطفل لم يرَ من الدنيا سوى جانبها المظلم؛ حيث أصر تياجو مانويل دياس كوريا المعروف ببيبي أن يخرج من الجانب الخاص من هذه المرحلة القاسية له، لكنه في الوقت نفسه كان يخشى التجربة الجديدة، ويخشى البُعد عن الملجأ!
تخيل معي، تعيش في ملجأ لكنك لا تُريد المخاطرة بعيداً عنه، وساعدته الكنيسة في تجاوز هذه العقبة الصعبة عليه، ورغم أن البرتغال لم تُقدم شيئاً في بطولة كأس العالم للمشردين تلك؛ إلا أن بيبي كان من أبرز من قدموا فيها شيئاً يُذكر.
في الحاضرين لمشاهدة البطولة، كان أحد وُكلاء الأعمال الذين استغلوا حالة التألق تلك، وعرض على بيبي أن يمنحه عقداً احترافياً بسرعة البرق، وكان العقد في الدرجة الثالثة البرتغالية، وفي نادٍ لم يكن يحلم بيبي بالوصول إليه أبداً.
على قائمة هذا النادي، لم يكن هناك غير بيبي من يتقاضى أجراً، حيث كان بيبي هو الاستثناء الوحيد، حيث كان يتقاضى راتباً أسبوعياً يصل إلى حوالي 300 يورو، لكن للأسف الشديد لم يتقاضاه فعلاً؛ لأن النادي كان غارقاً في الديون ولم يكن على مقدرة بدافع هكذا مبلغ سنوي يصل إلى 3600 يورو!
لم يكن بيبي يبحث عن المال في ذلك الوقت؛ لكنه كان يبحث عن رحلة آمنة تبعد عن الملجأ بساعتين ليس إلا، بالحافلة سيصل سريعاً إلى التدريبات والمباريات، وفور أن تنتهي سيُغادر بنفس السرعة، وإذا تعثرت مساعيه في أي مكان بعيد عن الملجأ سينام بجوار صناديق القمامة وعلى الأرصفة في الشوارع!
ربما لأن هذه المعاناة كانت بالغة، أراد الله له أن ينال شيئاً سعيداً في فترة ما، حيث أسعفته فترة الدرجة الثالثة في الوصول إلى نادي رايو أفي البرتغالي، ويخوض معه سبع مباريات ودية، ثم تقذفه الدنيا بسرعة جنونية نحو مسرح الأحلام بقميص مانشستر يونايتد.
قد تكون القصة ليست متوازنة، لكنها في الوقت نفسه حقيقية؛ حيث قال السير أليكس فيرجسون إنه لم يتعامل مع أي توقيع في مسيرته بالعمى مثل هذا التوقيع لبيبي، اللاعب الذي قابله في يوم ما، ثم استيقظ في اليوم التالي على خبر إعلان تعاقد النادي معه بتوصية من المساعد البرتغالي كارلوس كيروش!
كان نادي مانشستر يونايتد قد اتفق على كافة التفاصيل مع الوكيل البرتغالي، الوكيل الذي سيصبح بعد سنوات من أشهر وكلاء الأعمال في كرة القدم؛ وهو البرتغالي خورخي مينديز.
لم يُفوت خورخي مينديز هذه الفرصة المثالية، وربما أرادوا جميعاً التربح من معاناة الشاب المسكين، حيث رأى خورخي مينديز أنها الفرصة الأمثل لإيصال شاب راتبه الأسبوعي في الدرجة الثالثة 300 يورو، إلى نادي مثل مانشستر يونايتد براتب يصل إلى 17 ألف جنيه إسترليني في الأسبوع كذلك!
ربما تتساءل حالياً: ماذا حدث لبيبي حتى يصل إلى خورخي مينديز مرة واحدة؟ في الحقيقة، استطاع خورخي مينديز كغيره أن يغسلوا رأس بيبي ويخدعوه، وتخلى بيبي عن وكيله أعماله السابق الذي أتاه بعرض الدرجة الثالثة وهو المدعو ريس.
فسخ بيبي العقد من طرف واحد بينه وبين وكيل أعماله وقرر أن يخوض التجربة الجديدة مع خورخي مينديز، لكن لحسن حظه أن ريس قرر ألا يرفع قضية عليه ووضع في اعتباره البيئة القاسية التي تربى فيها بيبي وكان عليه أن يُسامح وإلا تأذى هذا المسكين!
في مانشستر يونايتد، وبما أن السير أليكس فيرجسون قد وصف هذا التوقيع بالتوقيع الأعمى، فلن تحتاج للكثير لكي تعرف أن الأمر لم يكن إلا رحلة قصيرة، لم يُغادر بيبي مانشستر يونايتد إلا وهو قد شارك في مباراتين فحسب، من العام 2010 حتى العام 2014 لم يُشارك بيبي إلا مرتين، قوبل فيهما بالهتافات الساخرة من جماهير مانشستر يونايتد التي كانت تهتف بحقه: "إذا سجل بيبي هدفاً؛ فهذا يعني أننا على أرض الملعب".
لم يكن بيبي يُريد مانشستر يونايتد، قد تندهش من وقع هذا الحديث، لكنها الحقيقة؛ قال إن لحظة خروجه من نادي مانشستر يونايتد هي بمثابة سقوط جبل من فوق عاتقه، وأن الأمر الذي كان الناس يحسدونه عليه لم يكن يريده ولم يكن يراه بأعينهم.
غادر بيبي مانشستر يونايتد، ليتخلى عن راتبه الكبير والشهرة المهولة، وينتقل إلى الدرجة الثانية في إسبانيا، ويرضى بهذا المصير.
لم يتعلم بيبي التعليم المثالي الذي يُمكن أن يناله أي طفل أوروبي في عمره، ولم يتعايش مع التجارب الحياتية كأي إنسان في الدنيا، ظُلم من انفصال والديه، ومن القرار القاسي للسلطات البرتغالية، ومن جشع الذين تعاملوا معه بظاهره دون النظر لمرارة ما بداخله.
واليوم يُمثل بيبي منتخب الرأس الأخضر في بطولة كأس الأمم الأفريقية في ساحل العاج، حيث سجل هدفاً من ركلة ثابتة أشبه بمسيرته وحياته بشكل عام؛ إذا رأيته تعجبت منه وإذا بحثت عن تفاصيله أصابك الحزن على حال الدنيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.